غزّة بأعين إسباني وإسرائيلي

حبيب سروري

سيبقى في ذاكرة الأجيال إلى أبد الآبدين:

يومُ الاحتفال الإسرائيلي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، كان هناك طفل فلسطيني، لا يحمل سلاحا، عمره أقل من 16 سنة، يُقتل كل ساعة برصاصات الجيش الإسرائيلي!

بعيدا عن فلسطين، كان ذلك اليومُ موعدَ “الامتحان الشفوي” لاختيار المرشحين الذي فازوا، قبل ذلك، بامتحانات كتابية، للدخول في كليات النخبة للهندسة، في بعض الجامعات الفرنسية.

في هذا الامتحان الذي يحضره أساتذة، وطلبة قدامى صاروا مهندسين مرموقين، وأخصاء في علوم النفس والاجتماع، وغيرهم، تُوجَّهُ أسئلةٌ حرة للطالب المرشح، بهدف تقييم ثقافته العامة، واستقلالية شخصيته، ومزايا ضرورية أخرى للمهندس النخبوي.

“ماذا يحدث اليوم في غزّة؟”، كانت تسأل أستاذةٌ زميلة لي، في جامعة فرنسية، كل طالب يمرّ أمام اللجنة.

بطبيعة الحال، كان جهل ما يحدث بدقة، بل جهل أوضاع غزّة عموما، هو السائد، وبدرجة ملحوظة.

ومع ذلك، لهؤلاء الطلاب مستويات دراسية عالية ومقدرات شخصية مميزة.

لحسن الحظ أني استلمتُ مساء اليوم نفسِه هديةً قيمة: كتاب رسومات كارتونية بعنوان: “أن تحيا في الأراضي المحتلة: رحلة في فلسطين، من نابلس إلى غزّة”.

مؤلفهُ شابٌّ إسباني: جوزيه بابلو جارسيا، رسام شهير وكاتب سيناريوهات، وفنان مبدع في الفنون الجرافيكية.

دعته مؤخرا “منظمة العمل ضد الجوع” الإسبانية لزيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة، خلال عشرة أيام.

فاز جوزيه جارسيا، قبل ذلك، بأكثر من عشرين مسابقة فنية، ونال عددا من الجوائز الوطنية الهامة.

رسم جوزيه جارسيا كل تفاصيل هذه الرحلة، منذ الاجتماعات التمهيدية (التي لا يحبّها بطبيعته، كفنان)، حتى ساعة التفتيش الميكروسكوبي المتعب المهين في المطار، من قبل البوليس الإسرائيلي، بكل أسئلتها الطويلة الاستخبارية الاستفزازية التي كاد الفنان يضيع خلالها رحلة عودته لإسبانيا.

طاف هكذا جوزيه جارسيا فلسطين، يرافقه دفتر رسومات خصب (كتابه من 86 صفحة). نقش فيه بريشة فنان ذي حسٍّ إنساني عال، ومقدرات فنية متميزة، كل وقائع ويوميات الحياة في فلسطين، بالأرقام وبروح الفكاهة أحيانا، كما لا تستطيع عرضه مئات التقارير والخطابات، المملة المتعبة بطبيعتها.

يصل تأثير كتابه خلال ثوان فقط إلى قلب وروح القارئ، ولا سيما أنه آتٍ من شاب مستقل عن الصراع الإسرائيلي العربي، يقدِّم حقائق المعاناة اليومية وواقع الحياة في الأراضي المحتلة بأمانة وإنسانية، لا غير.

الفصل الخاص بغزّة يترك جرحا في الروح، يؤثر بقوة، ويثير تعاطف الإنسان مع قضية فلسطين، على نحو عقلاني هادئ.

فغزة اليوم منطقة معزولة عن العالم منذ عشر سنوات، ذات كثافة سكانية استثنائية. محرومة من كل شيء إلا من الماء المالح الملوّث. مُسيّجةٌ بالجدران العازلة التي تمّ بناؤها مؤخرا من قِبل إسرائيل، والتي يمنع الاقتراب منها بقوانين أبارتايدية تحاصر غزّة وتخنقها تماما، وتمنع الخروج والدخول إليها في الغالب.

الصيد في بحرها مسموحٌ فقط في مسافة ضئيلة، بعيدة عن مراتع السمك.

كل ذلك بجانب عدد آخر من السياسات الإسرائيلية القاهرة الغاشمة التي جعلت الحياة فيها تراجيدية يومية.

يقول جوزيف جارسيا: “عندما يتحدث المرء عن الفلسطينيين، فالأمر دوما قضية مواجهات وقتلى. ينتهي ذلك بتحريف معرفتنا بفلسطين وسكانها.

ومع ذلك، معظم الفلسطينين لا يريدون إلا الحياة بسلام، والإيفاء بحاجاتهم لوحدهم. لهم أحلامنا نفسها، ومخاوفنا نفسها”.

حالما أنهيت قراءة الكتاب، اتجهت تلقائيا لمكتبتي أفتّش عن رواية أجّلت فتحها عند صدورها، اسمها “شاعر غزة”. أبحث فيها عن مزيد من قراءة واقع غزة، ليس انطلاقا من خطاباتنا العربية اليومية، لكن من عيون الآخر.

منطلقي: إيماني العميق بأولى استراتيجيات العبقري الصيني سان تزو، صاحب الكتاب الجوهري العميق “فن الحرب” (ظهر في القرن السادس قبل الميلاد): “اعرِفْ الآخر، تعرف نفسك”.

أي: لا تبحث عن معرفة نفسك، من وجهة نظرك، وبالدوران حولها كخذروف. لكن اعرفها من خلال إدراك كيف يفكِّر الآخر، وكيف ينظر إليك!

مؤلف الرواية الإسرائيلي يشاي ساريد، ابن عضو البرلمان الإسرائيلي والمناضل من أجل السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي: يوسي ساريد.

كتب روايته هذه بالعبرية في 2009، وتُرجمت إلى الفرنسية في 2011، ونالت جائزة الأدب البوليسي في ذلك العام.

الراوي ضابط مخابرات إسرائيلي، يتكلم العربية، مهمته الأولى إحباط العمليات الإرهابية. يعمل في سراديب عمارة استخبارية في تل أبيب، ويلجأ للتعذيب والقتل خنقا أحيانا عند التحقيقات البوليسية، لأكثر من مشبوهٍ بعملية انتحارية، أو لقريبٍ لمشبوه، لمجرد أنه لم يكشف أين يختفي قريبه!

الرواية مسبوكة بفنية عالية، يصعب تركها قبل إنهائها:

يحاول الضابط فيها التواصل مع الروائية الإسرائيلية: دِفنا، لطلب استشارات فنية لمشروع رواية ينوي كتابتها.

كانت دِفنا زوجة شاعر فلسطيني مثقف إنساني مسالم رفيع: هاني، مُنِع من دخول تل أبيب منذ عقود، بتهم علاقة مشبوهة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ثم لرفضه العمل كمخبر لإسرائيل.

يعيش هاني في غزة، ويعاني من سرطانٍ في مرحلته النهائية.

يسكن مع دِفنا ابنُها الذي يتناول المخدرات، ويعاني من مشاكل تصفية حسابات مع عصابة بيع مخدرات إسرائيلية، تنوي الإطاحة بحياته.

هدف محاولة الضابط للتسرّب في حياة دِفنا: مساعدتُها في ورطة حياتها الأسرية، مقابل جذب حبيبها القديم هاني من غزة، للعلاج في تل أبيب، بهدف جرِّ ابنه الفلسطيني (الذي يعيش متنقلا بين دول شرق أوسطية)، بعد ذلك، لمقابلة أبيه قبل موته في بلد محايد (قبرص)، ولاغتيال هذا الابن الذي يقود عملية إرهابية سرية، ذات موعد قريب، لم تستطع المخابرات الإسرائيلية فك أسرارها.

لن أكشف النهاية المدهشة للرواية، لكن ما يهمني هنا كيف تبدو غزة مسرح دوامة من دوراتٍ متأبدة من الكراهية والكراهية الأخرى، بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

“نحن أمام حشدين من الغوريلا تضرب بعضها البعض ضربا مبرحا، تماما مثل (إوديسيا الأنواع) لكوبريك في 2001. الفرق الوحيد هو أن العصى التي نستخدمها أكثر فعالية.

لعلنا نمتلك فعلا أقمارا صناعية جاسوسية تسمح لنا بشم رائحة تجشؤ فم أي ساكن في مخيم جنين، بعد أكله حمصا بالفول والبصل، لكننا نعود دوما للطرق العتيقة نفسها: التعذيب، بشرة الجلد، الأعصاب، كيس القماش النتن على الرأس، ربط اليدين بقيود تنهش الجسد…”، يقول الراوي.

منولوجه وهو يعذب ضحاياه الغزّيين، ويستحضر مشاكله العائلية الخاصة في الوقت نفسه، مثير دوما:

“أفكِّر بطفلي وبالأطفال الذين لم أستطع إنجابهم.

ليس بعيدا من هنا، على شواطئ غزة، ينجب الإنسان عشرة أو اثني عشر طفلا. غذاؤهم هواءٌ وأقراص طحين. ومع ذلك، يواصل الناس هناك الإنجاب، بلا خوف، رغم حرمانهم من كل شيء.

من أكون إذن، وأنا أوجِّه أسئلتي لهذا الأب، ذي الأطفال العشرة، المقيّد في سراديب استخباراتنا، فيما له قبيلةٌ يلزمه تغذيتَها، تعليمَها، والحفاظَ عليها بأمان تحت سقف منزل؟”.

بعد قراءة الرواية وكتاب الرسومات، كل شيء يبدو مغلقا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني العتيق.

ما الحلّ بعد فشل كل مبادرات السلام، والحلول التقليدية السابقة؟

خروج منديلا فلسطينيٍّ من السجن، كمروان البرغوثي، يهندس، مع قائد إسرائيلي نقيضٍ لنتنياهو تماما، حلا إنسانيا لتعايش الإسرائيليين والفلسطينيين، في دولتين بينهما حسن جوار؟

أو ربما في دولة فلسطينية إسرائيلية واحدة، من يدري؟…