مايا، أو كيف نخلق العالم من قوة الوهم؟

حبيب سروري

في عدَن الكوزموبوليتية، التي لم تعد موجودةً اليوم، كان هناك شيخٌ هنديّ بِلحيةٍ بيضاء طويلة، يقضي يومه مضطجعا يتأمل لوحةً تشكيليةً رسمها، يلتصق بها ولا ينظر لشيء آخر عداها.

متجرهُ، في سوقٍ شعبي، مخصّصٌ لبيع صورٍ لهذه اللوحة فقط!

اللوحة؟ منظر طبيعي آسرٌ جدا، بألوان ناصعة غريبة، ينقل المرء سريعا نحو بحيرة، شمس، حقول ذهبية، غابات استوائية ساحرة، عصافير…

كانت تجذبني اللوحة في طفولتي، لكن ما كان يجذبني بشدّة: التحديق بالشيخ وهو يحدِّق بها فقط.

شَفَطَني نحوه شيء ما، وأنا أراه غارقا في نشوةٍ حقيقية، مثلَ مخدّرٍ أو محلِّقٍ في عالَمٍ بعيد.

كان الشيخ كمن يسافر ويهيم في فراغٍ ما، مفعمٍ بعوالم خيالية لا نراها. يندمج في عالمِه التخييلي، يتأمّل في أبعاد فضائية خفيّة، كما يبدو من حركة عينيه الزائغتين وقسماته الممغنطة.

أبهرني وأسَرَني ذلك التأمل بشيءٍ مجهولٍ حدّ الالتصاق كليا به. بل حدّ الاندماج العضوي الذي يوحِّد بين الحسِّ والمادة (كما يقول النحّاتون وهم يتفاوضون مع طرفي هذه المعادلة)، بين الفكرة والكلمات، بين المتأمِل والمتأمَّل، و”الذي يجعل كلَّ الأنهار مقدَّسةً مثل نهر الغانج، ويُحوِّل كلَّ عبارةٍ آيةً إلهية”، كما يقول حكيمٌ هنديّ.

كنت أذهب يوميا إلى السوق لأحدّق وأغرق في نظرات الشيخ التي تبدو كما لو تخترق كرةً كريستاليةً ما. أصغي للأصوات التي تضجّ في سراديب صمته. أبحر بعيدًا على إيقاع وحركاتِ عينيهِ وأصابعه.

شعرتُ، رويدا رويدا، أن هناك ثقبا لا مرئيًا يمكن النظر منه إلى قارّة لا نهايةَ لفضائها: قارة الخيال واللاوعي والخروج عن النص.

تساءلتُ بعد سنين من ذلك: في أي عالَمٍ كان الشيخ يطوف ويتسكّع خلال تأمّله العجيب؟

أهذا هو الجنون الخالص، أم “عِلْم الباطن” الذي يسمح بالقبض على تلافيف كبد الآلهة؟

لمن كان يوجِّه تلك الابتسامات العميقةِ الراقصةِ على محياه، بين الحين والحين؟

لم أجد جوابا، لكني هندستُ جوابي كما أشتهي، بعد سنين طويلة وبعد أن تعلّمتُ فن صناعة عوالمي التخييلية، أنا وحدي:

كان الشيخ شابًّا يسبح في لجّ بحيرة ناصعة الزرقة، تحت سماء بسبع شموس. الفجر مشتعل الألق. ضياءٌ ربيعيٌّ يتبرعم في السماء. في طرف البحيرة أفقٌ أرجواني، ومليون عصفورٍ ذهبيٍّ قادمٍ نحو طرفها الآخر، حيث تفترش غابة من الأشجار والنخيل ذات الألوان التي لا تشبه ألوان أشجار الأرض: بيضاء، حمراء، فضيّة، بنفسجية، زرقاء، ياقوتية، زيتونية، زمردية، برتقالية، نحاسية، عسلية، رمادية…

ورودٌ مرجانية، حمراء، كُحلية، ذهبية، بيضاء، فيروزية، صفراء، زرقاء، ليمونية، خردلية، قرمزية…

تسبح بجوار الشابّ معشوقتهُ التي سميتها: ابنة الماء والنار. جمالُها جذوةُ ذلك الفضاء الساحر، وهجُه، وموسيقاه.

حول الغابةِ جبالٌ بألف لون، يتخلّلها ألف شلّال، تقترب منها أسراب ملايين العصافير الملوّنة الساحرة القادمة من الأفق.

سيمفونية لدنيّةٌ تملأ الفضاء…

أطلقتُ على ذلك العالَم اسم: “مايا”. أي: “الوهم”، بالسنسكريتية. أو بمدلولٍ سنسكريتيٍّ مرادفٍ آخر: “قوة الخلق السحريّة”.

لعلّي لذلك لم أكفّ، سرّا، عن محاولة تخيّل هذا العالم العجيب، وعن تشييده يوما بعد يوم، منذ ذلك الزمن، بمليون لون، بمليون شلّال، بمليون قُبلةٍ في كلِّ ركنٍ وطريق… أبنيهِ شارعًا شارعًا، بيتًا بيتًا، أخطِّطه وأعمّره وألوّنه وأؤثّثه بأجمل البشر. يبدو عالمنا الأرضي بالمقارنة به مهزلةً بائسة.

صرتُ مثل إشفارا، وهو يقول: “خلقتُ الكونَ من القوة السحريّة للوهم!”.

كل ما أحتاجه هو أن أبدأ بسرد ملامحه وتفاصيله وجغرافيته ونظام حياته، ونماذج من سيرات سكّانه وطرق حياتهم وتفاعلاتهم، بالكلمات، في سلسلة صفحات لا تنتهي.

“مايا”، التي تعوّدتُ بناءها ذهنيًا منذ طفولتي، نمَتْ كثيرا وتطوّرت، وأنا أدرسُ وأدرسُ وأدرس.

كنت أضيف لها كل يوم شارعًا جديدًا، وألف لونٍ جديد. أهلُها يُعمّرُون قرونا، في شباب دائم. لا يعرفون مرضا أو ألمًا أو تعاسة. يعملون ساعتين في اليوم فقط (ثمّة روبوتات تؤدي معظم مهام الحياة الروتينية والذكيّة)، وبقية اليوم ينشغلون في ممارسة العشق والسعادة بِنَهم.

يعيشون هناك إما سعداء، أو سعداء جدّا، لا غير. وهذا التمايز في طبقات ومقامات السعادة (يسمّونه هناك: “التمايز الطبقي”) مشكلتهم الوجودية الخطيرة، الوحيدة فقط.

فجرُها أبديّ، بحيراتُها عميقة شفّافة، وسط غابات ساحرة. أنهارُها كثيرة، تتعانق وتتقاطع. تغمرها، في كل مكان، آلاف العصافير والطيور الملوّنة. تملأ جبالها آلافُ الشلّالات الساحرة…

بناتها لا جمال ورشاقة كجمالهن ورشاقتهن. فساتين الحرير الأحمر، تسيل جذابة قاتلة على أجسادهن الهيفاء الفاتنة.

هنّ جذوات مايا، وآلهاتها الحيّة…

كلما كنتُ أشتغل في الإجازات في ورشة بناء وأنا طالب، في هذا الشتاء المظلم القارس أو ذاك، أضيف لمايا شمسا جديدة، أو 3 شموس أحيانا.

أضطجع على أحد سهول مايا لأراقب في الأعلى قوس قزح بألف لون. أمامي بحرٌ لازورديٌّ تتلألأ كل مليمتراته المربّعة، عليه أسراب سفن بلا عد، تقترب نحوي آتيةً من أقصى الأفق.

يرقص ملء السماء مليونُ عصفورٍ بألوان ذهبية، كستنائية، نحاسية، بنفسجية، بيضاء، زرقاء، فضيّة، قرمزية، رمادية…

وكلما كنتُ أعمل ليلا في مصنعٍ كيميائيٍّ كئيب لتصنيع بنزين الطائرات، أو في عملٍ إضافي كحارسٍ ليلي بُعَيد وصولي لأوروبا، كنت أضيف لِليلِ مايا قمرًا جديدا شاسعا أراقبه من نافذة مكتب المصنع ذي الرائحة البترولية الحادّة، أو من زجاج مدخل العمارة التي أحرسها. قمرا شاسعا أستطيع رؤية خارطته، والتجوّل قرب بحاره وأنهار، ومنادمة نسائه ورجاله، والرقص البهيج في شوارعه الجذلى…

مع معشوقة العمر، سافرتُ كثيرا في أفياء مايا.

في جولاتنا الفجرية في جُزره، كنّا نرى الإله أبولو، بشعرهِ الكستنائي وعينيه الزرقاوين وجلد النمر الذي يرتديه وجعبة سهامه الذهبية التي لا تنضب، فوقنا يغني بقيثارته الذهبية، مثل شمسٍ تضيء لنا الطريق.

وفي غسق مايا العاطر، كان الإله ديونيزوس، وعلى رأسه إكليل من أغصان الكروم وعناقيد العنب، يعلِّمنا كيف نعيش الحياة نشوةً وانزياحًا وعشقا للفن والجمال.

وفي الأفق، كانت الإلهة أثينا ترعانا دوما بنصائحها، وتغمرنا بنظراتٍ ألمعيّةٍ مشجِّعة.

وفي مقصورتنا البحريّة هناك، كانت قائدة أوركسترانا الإلهة أفروديت، تعزف لنا أغنيتها المفضلة: “الرغبة نسغ الحياة. اللهم زدني رغبة”.

عندما تتعكّر حياة شعوبنا العربية وأشعر بالإرهاق، ألجأ دوما إلى هندسة وتأثيث عالَمي الموازي: “مايا” الذي كنتُ أهرب نحوه من خراب هذا العالَم.

ازدادتْ الحركةُ المعمارية في أرجاء مايا، بعد تدهور حياتنا العربية في السنوات الأخيرة: صارت كل منازله (أي: كل قصوره) تستلقي على البحر، ويمكن إرخاء حبالها كالسفن، والسفر بها، في أية لحظة، حيثما نريد.

لكل قصر جدارٌ هائل الارتفاع، عليه رفوف مكتبة بآلافِ أجلِّ الروايات ودواوين الشِّعر، وأسمى الكتب والموسوعات الثمينة.

للوصول إليها ثمة سلالم أنيقة، من صفائح معدنية لامعة، بألوان رقيقة متغيّرة، تتعرّج وتتشعّب مثل جذوع وفروع وأغصان شجرةٍ تتناثر وتتغلغل في كل الرفوف. أحبّ التسلّق للصعود لعلياء هذه الشجرة السامقة لقطف ثمرةٍ من قُبّتِها، أو من غصن أحد الفروع.

في “مايا” نلعب كرة القدم فوق السحاب. ونتلقى دروس الفلسفة على قمم الجبال، ونحن نصغي للينابيع في الهواء الطلق.

ينبع الضوء والعطر من كل كائنات قارتي الحبيبة. القُبَلُ والعشق فيها ضرورةٌ يومية، مثل الماء والهواء. أما الموسيقى هناك فهي غذاء العشق، ماؤه وهواؤه.

لا توجد في “مايا” حدود بين الماضي والمستقبل: يمكن، بمجرد الاستلقاء على سهلٍ أو غيمة فيها، إغماض العين والسفر للحياة الفعليّة في مستقبل المستقبل. في عام 7777 مثلا. أو في ماضي الزمان وسالف الأوان، قبل أن تتفجّر الحياة على كوكبنا الأرضي، قبل حوالي 4 مليارات عام، لمن يفضِّل ذلك. أو (لمن له قلب من حديد) في الساعات الأولى التي تلت “البيغ بونغ” (الانفجار الكوني الكبير) قبل 13.7 مليار عام.

كل بيت في كوكَبي الطوباوي “مايا”: قصرٌ، وكل قصرٍ سفينةٌ في الوقت نفسه، وكل مدينةٍ ميناءٌ بَحرُهُ يملأ النظرَ من نافذة القصر حتى الأفق الأرجواني.

يمكنك أن تسير فيه على الماء كنبيٍّ توراتي، باتجاه أي قارة. على رأسكَ سحب من أسراب عصافيرٍ وطيورٍ بلا عد، بأشكال وألوان أبتكرُها جديدةً يوما بعد يوم.

وباتجاه أي كوكب أيضا: ما إن تتمناه لتراه على بعد سويعة من ناظريك، يسبح على ماء البحر. (أميلُ كثيرا لزيارة الكوكب الأحمر: المريخ، وزُحل، وعطارد).

إلهي، ما أتعس قيود كوكبنا الأرضي ومحظوراته، وما أروع انزياحات “مايا” وتسكّعاتها الزمكانية!

لم يكن لديّ غير حلمٍ واحد، مع استمرار تدهور حياتنا العربية: الهروب للجوء السياسي والعاطفي والوجودي في “مايا”، عالَمي الطوباوي الجميل.

بيد أني صرتُ مؤخرا جدا أتساءل بقلق: أيجوز لي الاستمرار في تأثيثه، عندما يبلغ الشقاء اليومي في عالَمنا العربي هذه الذروة؟

أيحقّ لي أخلاقيا أن أمتلكُ الطاقة والشجاعة والمقدرة على مواصلة توسيعه وتعميره، كحلٍّ لخراب هذا العالَم؟