أهلا بكم في عام 7777

حبيب سروري

حتى بداية ديسمبر الماضي، كان أحد أكبر أحلامي السريالية (صدِّقوا أو لا تصدِّقوا): السفرَ إلى الماضي (لا أدري كيف)، ورؤيتَه كما حدث فعلاً، لا كما يحكيه الملفِّقون من أيديولوجيين وكهنة.

نعم، كان حلمي الحياة المباشرة في تخوم القرن الخامس ق. م. (قبله وبعده بقليل)، في كل العالَم تقريباً؛ زمن الفلسفة والديمقراطية الإغريقية والتراجيديات المسرحية الخالدة، زمن كونفوشيوس في الصين، زمن سيريوس في فارس، زمن تأليف التوراة من قِبل كهنة اليهود، خلال بضعة قرون: منذ شتاتِهم في بابل، وحتى القرن الثالث قبل الميلاد.

وكان حلمي الشقيقُ الحياة في القرن السادس والسابع ميلادي، في كل الجزيرة العربية، لرؤية حروب جنوبِها طوال القرن السادس، منذ الغزو الحبشي، ثم انقلاب اليهودي الحميري يوسف عازار على الملك المسيحي، وأمرِه ببناء محرقة لمسيحيي نجران في عام 523.

ثم مختلف الحروب والانقلابات والاغتيالات لهذا الملِك أو ذاك، على إيقاع شهوات القوّتين العظميين: البيزنطية والفارسية، بموانئ البحر الأحمر، ومجيء أساطيلهما، أو أساطيل أذنابهما في المنطقة، إلى اليمن.

ثم غزوات أبرهة لشمال الجزيرة، ودعوة سيف بن ذي يزن فارسَ لاستعمار اليمن.

ثم ولادة النبي محمد، قوافل تجارة أمّنا خديجة، اجتماع السقيفة (كم حلمتُ أن أكون كاتبَ محضرِه، كما كنتُ أكتب محاضر اجتماعات المنظمة القاعدية للحزب الاشتراكي اليمني في مدرستي الثانوية!)، ثمّ كل غزوات الدين الجديد لاجتياح العالَم شرقاً وغرباً، بنجاحٍ ساحقٍ منقطع النظير.

كان كل ذلك حلم أحلامي، لأرى الماضي بأم عينيّ، وليس عبر المنشور الضوئي التزويري للأكذوبات التاريخية التي نتوارثها من قرنٍ لقرن.

لعلي كنتُ سألاحظ حتماً خطأ عبارة هرقليطس العميقة: “لا يستحمُّ المرء في النهر نفسِه مرّتين”، لأننا، في اليمن على الأقل (وفي بلاد العرب عموماً)، نستحمّ في نهرٍ ميّت، غدُنا ماضينا، ونحن نعاود حروب القرن السادس الميلادي اليوم.

قطعتُ كل رغبةٍ في تحقيق هذا الحلم السيريالي، في الأسبوع الأول من ديسمبر 2017.

السبب: ذلك الاجتماع القبلي الذي كتبت عنه مقالاً في “ضفّة ثالثة” بعنوان: “ابن خلدون والرقص في أمعاء الثعابين”.

هكذا، انقطع كلية شغفي السرياليّ الحميم بالسفر إلى الماضي، ورؤيته في عقر زمانه. ولم أعد أريد كتابة محضر اجتماع السقيفة، ولا موت المتنبي وعبدالله ابن المقفع، ولا سماع أبي العلاء المعرّي وهو يملي لكاتِبهِ “رواية الغفران”، ولا مشاهدة نظرات محمد الصغير الأخيرة لغرناطة، ذات فجرٍ مريع من عام 1492، وهو يودِّع الأندلس إلى الأبد ويتأوّه “آخر حسرات العربي المسلم”.

صرتُ أخشى أن يقودني السفر إلى الماضي مثلاً لرؤية هولاكو يجتاح بغداد، ورؤية المغول عموماً، منذ جدِّه جنكيز خان، وهم يجمعون سكان المدينة التي يريدون تدميرها بعد غزوها، في أرض خلاء على تخومها.

يُكلَّفُ كلُّ جندي مغولي هناك بقتل عدد من الناس بالفأس!

ثم يلزمه، على وجه الخصوص، أن يبرهن ذلك بقطع آذانهم ووضعها في كيس، لِعدِّها في المساء، إذا لا يريد أن يُعاقبَ على تقصيره.

لم أعد أحبّ السفر إلى الماضي خوفاً من أن يقودني لرؤية الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني (958ـ1025م) وهو يحاصر جيشاً من 15000 بلغاري، يفقأ جنودُه عيني كل بلغاري، ما عدا مائة فقط من المحظوظين: يحتفظون لكل واحد منهم بعينٍ واحدة فقط، ليتولوا مهمة قيادة عودة الجيش إلى دياره. ما جعل كارامازوف، بطل ديستوفيسكي، يصرخ:

“لا يوجد حيوان بشع بهذه العبقرية والفنيّة كالإنسان”.

ثمّ لماذا السفر، وماضينا اليمني أو العربي لا يختلف عن غَدِنا، كما أراه بأمّ عينيّ، وأنا أتابع الاجتماع القبلي الذي كتبت عنه مقالي في “ضفة ثالثة”.

لم أعُد أقبل مصطلحات زائفة مثل: “الزمن الجميل”، أو مشاعر معتوهة مثل: “الحنين إلى الماضي”. ها هو الماضي حاضرُنا، لأننا، ـ أكرِّر ـ على خلاف نظرية هرقليطس، نستحمُّ في نهر ميت.

ثعابين كهوف الماضي تلتفّ حولنا، تعيش معنا أكثر حضوراً وحيوية ولدغاً وفتكاً من أي وقت مضى.

لم أعد أحنّ، بعد رؤيتها أمامي، في ذلك الاجتماع الذي لا يختلف عن اجتماعات القرن السادس، إلا للسفر إلى المستقبل.

إلى عام 7777 على سبيل المثال. يسكنني هوس الرغبة في معرفة كيف ستحيا البشرية في ذلك العام.

أريد أن أعيش معها وهي ترى القرون السحيقة، قروننا التعيسة هذه، وتنفجر من الضحك.

أعشق الحياة، لا أخشى الموت، لكني لا أقبل أن أجهل كيف سيكون مستقبل البشرية. كم يؤلمني ويحزّ في نفسي ذلك!

ما مستقبل الأنواع البيولوجية؟ جديد خارطة الأرض وموقع الجبال والجزر؟ وضع الكوكب البيئي (كم يقلقني ذلك!)؟ كم عدد الكوارث البيئية التي سيكون قد سبّبها الإنسان حتى ذلك العام؟ ما آخر أخبار أحفادِ أحفادِ طيور بانسون داروين؟.

ما هي الأنظمة التي ستأتي بعد الرأسمالية؟

من سيحلّ، ومتى وكيف، معظم العشرين معضلة الكبرى في الرياضيات، التي ما زالت مفتوحة (يبدِّد جحافل من الباحثين أعمارهم عبثاً لمحاولة فكِّ مغاليق أسرارها، منذ دهر)؟

ومن سيكتب صيغ “الحلّ العام للمعادلات الكلماتية”، ومتى؟

أستعرفُ البشرية كيف كان الكون قبل البيغ بونغ (الانفجار الكوني الكبير، قبل 13.7 مليار عام)؟

أستُجيبُ عن أعقد الأسئلة الوجودية قاطبة: لماذا هناك شيءٌ بدلاً من لا شيء؟

استصطادُ تيلسكوبات المستقبل صوراً حيّة، من الأضواء العجوزة التي تعبر الكون، للّحظات الأولى لِتشكُّلِ كوكبنا الأزرق الحبيب، قبل أكثر من 4 مليار ونصف المليار عام، لِأرى يومياته القاحلة خلال المليار عام الأولى من تاريخه، قبل اندلاع الحياة فيه؟

ولأشاهد الظروفَ الفريدة التي سمحت بـ”استحداث” (حسب تعبير أبي العلاء) المواد العضوية من المواد الجامدة فيه، ثمّ بدء تبرعُمِ الحياة في أرجائه، بعد نحو مليار عام من ولادته:

                        والذي حارتِ البريةُ فيهِ

                        حيوانٌ مستحدثْ من جمادِ

ولأتابع يوميات هذه الحياة حتى لحظة “الفناء السادس” الكبير الذي أدّى إلى نهاية الدناصير على الأرض، قبل 65 مليون عام.

ولأفركَ يديّ، وأنا أرمق حيوانات صغيرة جداً كانت تختفي في علياء الأشجار، وهي تنجو من لهيب تلك الطامّة الكبرى (إثر سقوط نيزك ضخم، يعرف العِلم اليوم بدقّة موقع سقوطه في المحيط، قرب المكسيك)، ثم تطوّرتْ خلال أكثر من 60 مليون سنة، قبل بدء سلسلة من مراحل مؤنسَنة.

مراحل تتوَّجَتْ، قبل أكثر من 50 ألف عام، بنوعنا المعاصر: هومو سابيانس “الذي حارتِ البريّةُ فيهِ”، النوع البيولوجي لِبيكاسو وآينشتاين وشهرزاد وسان تزو ومانديلا وأنديرا غاندي ومحمود درويش.

ويْحي، ما زلتُ أحنّ إلى الماضي!

يزعجني أني لن أعرف عدد كواكب مجرّات الكون التي سيكتشف العِلم فيها ازدهار الحياة، مثل كوكبنا، وبأية هيئة ستتجلّى في كل كوكب؛ ولن أعرف متى وكيف سيكون السفر إلى المريخ وعطارد وزحل مثل الذهاب إلى مقهى في ركن الشارع؛ ومتى وكيف يمكن أن ينتقل الإنسان في الزمان بكلِّ حريّة، يعيش مليون قرنٍ في لحظةٍ واحدة، ويحتضن الكون بكلِّ مجرّاته بقبضة يد.

لن أعرف مستقبل الشِّعر والرواية في عالمنا عام 5555، ولا كيف ستكون الأيام الأخيرة لاستعداد البشرية للحظة “البيغ كرانش” التي سيذوي معها الكونُ وينكمش في كتلة واحدة لا نهائية الصغر، أخت ونقيض لحظةِ “البيغ بونغ” التي تبرعمَ بعدها الكون من كتلة واحدة لا نهائية الصغر.

أشعر بالقهر، والسخط أحياناً، لأني سأموت قبل رؤية ومعاصرة ذلك، أو حتى معرفة تفاصيله لا غير.

ومع ذلك، كل ما عداه: ترهات وتفاهات.

أعترف: لا يستطيع أحد التنبؤ بمستقبل البشرية في عام 2050 فقط (فما بالكم بعام 7777؟!)، وإن كان موعد صناعة وتسويق “الرّحم الاصطناعي” مبرمجاً لِتخوم عام 2030؛ وموعد اختراع الروبوتات التي ستحتضن الطفل وترعاه، بعد ولادته من الرحم الاصطناعي، وتُسقيه الحليب وتُربِّيهِ على نحو أذكى وأفضل من تربية الأبوين الإنسانيين له، مبرمَجاً لِتخوم 2045، هذا العام الذي، حسب دراسات شركة غوغل ومشاريعها، سيكون عام “التفرّد”.

أي (اربطوا أحزمتكم جيداً)، ستكون الروبوتات بعده أكثر ذكاء من الإنسان، وستقود لوحدِها العالَم!

ألاحظ: لا يشكّ أحد أنه في حدود عام 2050 سيندمج الإنسان والكمبيوتر في كائن جديد، هومو زيوس: “الإنسان الإله”، وستكون الجسور العضوية المباشرة التي تربط الإنسان بالكمبيوتر حينها بلا عد.

جسور تربط ذكريات الدماغ ومعارفه، ببرمجيات الكمبيوترات مباشرة. ذهاب وإياب بينهما في الاتجاهين، بدون توقف.

بإمكانكَ حينها أن تُنزِّل كتاباً من الكمبيوتر إلى دماغك مباشرة، بدون الحاجة لقراءته، وبإمكانك أن تمحو ذكريات لا تروق لك من دماغك مباشرة بوضعها في سلة مهملات الكمبيوتر المرتبط بالدماغ.

كل هذا بعد نحو 30 عاماً من الآن!

لكن إلهي، ماذا سيحدث بعد 5759 عاماً من اليوم، في عام 7777؟

كيف ستكون الطبيعة الإنسانية في عام 7777؟

وكيف سيكون مستقبل البشرية فيه، حروبها، أمراضها، العلاقات بين شعوبها، حكوماتها، (إن لم تكن لها حينذاك حكومة واحدة فقط، أم هل سيحيا مجتمع “الإنسان الأعلى” يومذاك بدون حكومة)؟

بل ما مستقبل الإنسانية قبل 5000 عام من عام 7777؟ قبل 5677 منه؟

كيف ستكون العلاقة بالآلهة، بمفهوم “الوحي” الذي يهبط من السماء حاملاً “الحقيقة الدامغة المطلَقة”؟

ماذا سيكون رأي الكمبيوتر والروبوتات حول ذلك؟

أحترق شوقاً لمعرفة الإجابات عن كلّ هذه الأسئلة.

من لي ببروميثيوس يسرق لي الإجابة عنها من دماغ علّام الغيوب؟!