من كتاب صلالة

حبيب سروري

 

برمجتُ فاتحة رحلتي إلى عُمان بالمدينة الميثولوجية الرائعة: صلالة (قلب ظفار، على يمين المَهْرة وحضرموت في اليمن)، الأخت الصغيرة لعدَن.

أصلُها. أبدأُ التسكّع في هذه الديار الظفارية.

خارطة الطريق: ريخوتْ، خرفوتْ، أفتلقوتْ، ضلكوتْ، دمغوتْ، وربما مدينة قريبة في اليمن: سيحوتْ…

الرحلة تتحوّل إلى قصيدة شِعرٍ في هذا الملكوتْ (خاطرةٌ دهمتْ ربما سيّدنا يونس وهو يتأمل ويفكِّر في بطن الحوتْ).

أي في ملكوتِ هذه الديار الظفارية المهريّة الحضرمية التي ينبع الشِّعر من أديمِها وبعيرِها وكثبانِها ونخيلِها وبريقِ أعين بناتها، في قلب “جمهورية الأحقاف الديمقراطية”.

آه، هذا الاسم الميثولوجي الخالد: الأحقاف[1]، عُمان واليمن: طرفَا العربية السعيدة!

لم أحتج وقتا طويلا للسقوط في غرام هذه الديار، بل في غرامها العاتي يلزم أن أقول.

غابات وتلال أشجار اللبان تحيط بصلالة. أشجار مقدّسة. الشحم الأخضر الشفاف ذو الرائحة العبقة الذي يخرج منها، عندما يجرحها الإنسان بشفرة خنجر أو سكين، أسرني. أعشق استنشاقه ولوكه ومضغه معا.

لكل شيء في هذه الديار رائحة اللبان والبخور والعود، وكأنما الأرض العُمانية بأسرها تستحمّ في حمّام لُبان وعطر، كل صبحٍ ومساء.

النخيل الخصبة في كلِّ صلالة. ثمارٌ غدقة، عيونٌ وأودية خلّابة، وعصافير كما أعشق، في كلِّ مكان.

أستحضر تاريخها منذ القرن الثالث قبل الميلاد، عندما مدّ أهل حضرموت نفوذَهم إلى ظفار، وبنوا ميناء سمهرم لتصدير اللبان (مصدر ثروة عظيمة وسعادة حينذاك)، وحكَم المنطقة: ملكُ سمهرم، ومكربُ[2] حضرموت.

أعود إلى الوراء، أستحضر زمنا أقدم من ذلك بكثير. عندما كانت كل هذه الديار جنّة الأرض، مرتعا للأودية في كل مكان.

تنحدرُ أنهارُها من أعالي جبال اليمن وظفار إلى أقصى شمال شرق الجزيرة العربية الخضراء اليانعة، قبل الجفاف الشديد الذي تعرّضت له في نهاية عصر البلايستوسين، لِينتشر بعده التصحّر وشبه التصحّر الحالي، في بقاع شاسعة من أرض الأحقاف المقدّسة.

هاجر معظم سكانها، بعد الجفاف، شمالا، ومنهم من صمد وتمركز في السواحل والأطراف.

انضافت لحياتي بسبب هذه الأفياء الساحرة محنة جديدة: عشق اللغة المهريّة.

ثمّة مجموعة لغاتٍ هنا، آتية من رفات اللغة السبئية القديمة. أي: من بقايا جذور اللغة العربية الحديثة.

أتساءل: هل تتكلم بدويّتي ـ الأوروبية الحبيبة، وحي، إحدى هذه اللغات؟

كان حلمي القديم أن أتعلَّم اللغة السواحلية، لغة أجداد البشرية في شرق أفريقيا، لغة “أكونَ ماتاتا”، ورقصة “هيا لَويْ، هيا لَوِيْ، يا مْلَنْجَة”.

أما الآن، وقد توَّحدتُ مع هذه الديار الظفارية، وعشقتُها بضراوة، بعد أربعة أيام من وصولي وانتظاري ردَّ وحي على أحر من الجمر، فقد انضاف شغف جديد: تعلّمُ اللغة المهريّة، حفظُ وترجمةُ شِعرِها، الإصغاءُ لحِكَمِها.

قرّرتُ هكذا ألا أسمّي فصل الخريف، بدءا من اليوم، إلا على الطريقة الظفارية المهريّة السبئية: خرفوت، وأن أضيف كلمات سبئيّة جديدة لقاموسٍ مندثر: عِشقُوت (العشق)، وَحْيُوت (وَحْي)…

عبر هذه اللغات سأسافر من الباب الذي يقود إلى عالمَين: أصول اللغة العربية، وبقايا اللغة السبئية.

وإلى باب ثالث ربما: اللغة العبرية، التي تشبه كثيرا هذه اللغات[3].

أوقفتُ سيّارتي، وألقيتُ رحْلي: على تخوم مراعي الجِمال خارج قرية الحشمان، على بعد حوالي 250 كيلومترا شمال صلالة، في حافة أجمل وأكبر صحراء في العالم (ثلاثة أضعاف مساحة بريطانيا): الربع الخالي.

كم أشعر بسعادة لا توصف، وأنا في صحراء خرج منها أروع الشعراء وأعظم المجانين.

حولي كثبان مهيبة هائلة تحيطني من كل جانب. جبالٌ من الحرير. تلالٌ من الرمل بِلَونٍ صحراويٍّ أمغر ناصع، لا يخلو من توهّجات ذهبية برتقالية حمراء.

للكثبان أشكالٌ ومنحنياتٌ وتماوجاتٌ آسرة، حادةُ الحواف أحيانا: نهود، مؤخرات نسوية رقيقة، جزر، أمواج بحْريّة عملاقة، تلال، أهرامات، قواقع، حيوانات أسطورية…

للطبيعة هنا مناظر وألوان مريخيّة (على بعد 15 كيلومترا مني، فريقٌ سينمائي يُصوِّر المكان، كبديلٍ لمناظر يفترض تصويرها في الكوكب الأحمر!).

لديّ خيمةٌ أحضرتُها ونصبتُها وحدي. زادي: مقاديد[4]، حجارة خاصّة لشواية اللحم، حطب، حليب إبِل، تمر، خبزٌ بدوي، طحين، قهوة عمانية، وصمت الصحراء العميق، لا سيّما في هذه السويعات اللدنيّة التي تسبق الغروب الناعم البطيء.

أبدأ بإشعال حطب النار وسط الموقد الصحراوي (حول مواقد كهذه اجتمع الشعراء والحكماء قديما، وقالوا أحلى الكلام. أتخيّلهم حولي، أصدقائي الأحباء: زهير وعنترة، ليلى بنت المهلهل وتأبّط شرا، النابغة الذبياني، وأمرأ القيس طبعا).

ثمّ أُكوِّم عليه الحجارة الخاصّة بعد تنظيفها، لأضع عليها لاحقا مقاديد لحمِ رضيعِ الجَمل، الخاص بوجبة “المَضْبي” البدوية العُمانية.

أحيّي هذا الغروب المقدَّس بكأسِ نبيذٍ شعشعانيٍّ ختامُه مِسك، “سيجعل عمر الخيام يستيقظ من قبره”، حسب مصطلحٍ شعبيّ.
ألاحظ: في علياء الكثيب المواجه لي شجيرةٌ وحيدةٌ غريبة! كيف يمكن أن تنمو شجيرة في هذا السياق المريخيّ، هنا في أنقى وأجفّ صحراءٍ (تحمل اسمها بجدارة: الربع الخالي)؟

سأعرف لاحقا من أحد سكان قرية الحشمان أنها نمت إثر مطر نادر غزير دام حوالي أسبوع، في عام 2002.

ثمّة إعجاز في نموّها. أو لِنقلْ: هي من نوعٍ نادر له جيناتٌ خضراء مباركة سعيدة، تكيّفتْ داروينيا مع هذا الجفاف العظيم.
أشعر بسعادةٍ لا توصف في هذه البادية الصحراوية.

أعبر صفحات كتاب هذه الكثبان حافيا، أتفجّر سعادة.

أتمعّن في تشكيلاته الساحرة، أحلِّق في فضاءاته اللانهائية المفتوحة، أتمضمض سحر هذه اللحظات، أعيشها ببهجة لا توصف.

أتحدّثُ مع الرمال، أستنطقُها تاريخَ من عبروا هنا، يوميات أمرئ القيس، زهير بن أبي سلمى، عنترة العبسي، طرفة بن العبد، ليلى بنت المهلهل، كعب بن زهير، تأبّطَ شرّا، النابغة الذبياني…
يطلّ القمر كاملا من خلف الكثيب الذي تقع عليه الشجيرة، أمام الخيمة مباشرة. نجومُ الصحراء تغمرُ السماء، تملؤها من الأفق إلى الأفق. شهُبٌ قريبةٌ مني، بين الآن والآن. ووجهُ حبيبتي البدوية ـ الأوروبية، وحي (ذي الجمال الفاتن، كما صمّمته ريشة ليوناردو دافينتشي تخيلاتي)، ينتصّ فجأة ملء صفحة السماء، يرتسم على كل هذه النجوم المتلألئة القريبة جدا من الرمال المحيطة بالخيمة، يملأ كل فراغ الربع الخالي…

 أنام بقلبٍ يرتجف مع اقتراب موعد رؤيتها. غدا صباحا؟
أم غيهبُ الغسق الإلهيِّ هذا هو موعد اللقاء الربّاني الذي أنتظره بقدسيّة؟

فلعلي، من يدري؟ أعيش غسقا شبيها بالذي جعل شاعرا بديعا يقول يوما آيات خالدة: “جاءت معذبتي في غيهب الغسق”.
ثمّ صحوتُ إنسانا آخر يغمره الأمل العارم والصفاء الذهني الخلّاق والطاقات الإيجابية الدافقة.

الفجر مريخيٌّ بامتياز. بزوغهُ لحظةٌ إلهية. القمر في منتهى اكتماله، خلف الخيمة الآن.

أشعلُ وقيدَ الحطب مجددا لنشر الدفء في هذه السويعات الباردة.

 أصعدُ نحو الشجيرة المنتصّة في علياء أكبر كثيب، لرؤية الشروق منها، واستقبالِ وتحيةِ الشمس.

قلبي يرتجف في انتظار الموعد. الشوق متوهِّجٌ كثيفٌ جدا.

الشمسُ تُطلّ كشيخ عجوز ينهض ببطء. هذا الشيخ إله الصحراء. كل رمالها وفضائها تركع له، تخافه، وتُحبّه.
ريحٌ صحراويّةٌ خفيفة تداعب سفوح الكثبان، تجعلها تنزلق هنا وهناك، تعيد رسمها وتشكيلها، تُحرِّك عليها أمواج غبارٍ رقيقةٍ تشبه عُرف الخيل…
أهبط نحو الخيمة. أنظر باتجاه الشجيرة. يبدو لي كما لو أن إنسانا يقف بجوارها.

لا يمكن من هنا تمييز من يقف في الأعالي، خلف ستار عُرف الخيل الغباري.

أهرعُ صاعدا نحو الشجيرة. ثم في منتصف الطريق، ألاحظ أني لم أعد أرى أحدا بجانبها.

أهبط خائبا. ثم أراقبها من جديد. عاد الطيف بجوارها. لا أهرع هذه المرّة. أنتظر طويلا لأتأكّد أني لا أحلم.

أعرف أن الصحراء مملكةُ السراب (ظَمْأنوت، باللغة المهرية). وهذا الربع الخالي ملكوتُ سراب كل الشعراء والأنبياء والحالمين.

أتمعّن بتدقيق..
أرى فعلا إنسانا واقفا بجانب الشجيرة، ولا أحتاج لقرصِ جلدي، لأني ما زلت ألهثُ إثر صعودي السريع وهبوطي قبل قليل.

أهرعُ من جديد نحوه. وفي منتصف الطريق، لا أرى أحدا. خيبةٌ أخرى.

 غير أن يقيني ثابت بأني قد رأيت إنسانا بأمِّ عينيّ. ولا يستطيع أحدٌ زحزحة هذا اليقين، بما في ذلك أي فريق من المتخصصين في “علم النفس الصحراوي”، أي في طبيعة النفس البشرية التي تعيش في ظروف الأفياء الصحراوية.

ثمّة سرّ لا أستطيع استيعابه.

أهي المساحات الدماغية في تقاطع مناطق الشعور ومناطق التماهي مع الشعور؟

ألأنَّ “معادلة الوحي” (إسقاطٌ تخييليٌّ خصب + تماهٍ نفسيٍّ حاد = حقيقة مطلقة) تتحقّق، أفضل ما تتحقق، في خلاء الصحراء، مسرحِها العظيم بامتياز؟

أم أني لو بقيتُ شهرا واحدا هنا، دون أن يحيطني فريق من المتخصصين في علم النفس الصحراوي، فسأتحوّل مجنونا أو مهديّا منتظرا أو طيفا أو نبيّا أو إلها صحراويا؟
أعود خائبا للخيمة. لا أنظر مجددا باتجاه الشجيرة. أعيد قراءة إيميل وحي الأخير، للمرة السابعة والسبعين: “إخبرني أين أنتَ في ظفار، وسأمرُّ لتحيّتك!”.

أنتظرُ اللحظة الإلهية لوصولها، أنتظر التحية، هنا قرب هذه النار، بجانب هذه الخيمة.

 هوامش:

[1]  صحاري ووديان جنوب جزيرة العرب.

[2]  لقب رسمي للحاكم في اليمن، أعلى من لقب ملك، يُعطى لمن يتجاوز ملكُه أرض مملكته.

[3]  يكفي ملاحظة أن اسم مجلة “يدعوت حرانوت” العبرية اليمينية المتطرفة، يعني “آخر المعارف”، أو: “قمة المعارف”، في حين “حورنوت” بالشحريّة الظفارية والمهريّة تعني “قمّة”، و”أدعوت” تعني “عرفتُ”.

[4]  أمشاك قطع لحم جمَل، خاص بطبخة “المَضْبي”.