سفينة نوح العلم في الغلاباغوس

حبيب سروري

 

الغلاباغوس، تعني بالأسبانية الفصحى: “جزر السلاحف”. وتعني كما يُردَّد غالبا: “الجزر المُسكِرَة”، أو “الجزر الساحرة”.

حال الاقتراب بالسفينة منها، شعرتُ أننا سنعيش أمّ الاكتشافات والمفاجآت. ها نحن في أكثر جزر الدنيا سحرا وإدهاشا، وأهمّها في تاريخ الاكتشافات العلمية حول أصول الإنسان، وأولاد عمّه: (بقية الحيوانات)، وكل أقاربه وذويه: (بقية الكائنات الحيّة).

أرخَتْ سفينتُنا، القادمة من الإكوادور، حبالَها في أقصى جزيرةٍ غلاباغوسية: شاتام (كما كانت تُسمّى في أيام داروين. أو سان كريستوبال، كما تُسمّى اليوم)، في شرق الأرخبيل الذي يبعد أكثر من ألف كيلومتر عن الشواطئ الشرقية للإكوادور في شمال غرب أميركا الجنوبية.

كنّا كمن وصل إلى كوكب آخر، أو كمن وصل إلى كوكب الأرض قبل طوفان سفينة نوح: بيئةٌ بركانية غير اعتيادية، تضاريسها لا تُشبه تضاريس:
فوهاتٌ بركانيةٌ في انتشارٍ عجيبٍ حولنا. أشجار الصبار لها أشكال لم نرها من قبل. معظم النباتات والحيوانات نكتشفها هنا لأول مرة، وليس لها مثيل خارج الأرخبيل.

عندما تواجهُ في طريق سيارتك سلحفاة عملاقة في الغلاباغوس، وزنُها أكثر من أربعمائة كيلوجرام، تتمطّى وتتمايل وتتبختر بغنجٍ ميكروسكوبي، قبل أن تتوقف لتلتهم شجيرة صبار صغيرة نَمَت في منتصف طريق، فاقفلْ مفتاح السيارة.

ضع فيلما هنديا طويلا على شاشة السيارة أو الهاتف، يستمر بضع ساعات، بانتظار أن تبتعد السلحفاة وحدها عن وسط الطريق…

سيدهمُك هذا السؤال بالطبع: من أي كوكبٍ سقطت هذه السلاحف العملاقة؟ كيف غزت الأرخبيل؟ لماذا لا توجد سلاحف مثلها في أي مكانٍ آخر في الكرة الأرضية؟

بانتظار مغادرة السلحفاة، لاحظنا، غير بعيدٍ من موضع توقفنا الطويل: “مقبرة السلاحف” التي كتب عنها داروين في مذكراته.

ثمّة، حيثما أخد عالِمُ الأحياء الشهير معه درع سلحفاة مقعّرا فارغا، استخدمه كحوض سماد!

أشعر بالدهشة التي اعترته، يوم رسو سفينته “بيجل” هنا، في 17 سبتمبر 1835، وهو يرى هذه الكائنات العملاقة، وحاجته لأخد 50 سلحفاة منها معه لدراستها بعد العودة إلى لندن، ليكتشف حينها، بمعونة العالِم المتخصص جون جولد، أنها تنقسم إلى 15 نوعا بيولوجيا، بأشكال مختلفة: قوقعةُ ظَهرِ بعضِها مثل القبّة، وبعضِها مثل صهوة الخيل…

تتقدّمُ سيارتنا، شُهدُ وأنا، بعد انسحاب جلالة السلحفاة العملاقة من طريقنا.

الطقس لطيف ساحر على الدوام، رغم أن الأرخبيل يستلقي على خط الاستواء.

أنظر في الجو بحثا عن عصفور “الصفنج”[1] ، أو “البانسون”، كما يُلفظ اسمهُ بالفرنسية.

السبب: بعد وصول داروين إلى هذه الجزيرة النائية التي افتتحنا بها، نحن أيضاً، رحلة الأرخبيل (على غراره تماما، عندما وصل)، وبعد عبوره كل الأرخبيل، ستتأجج في ذهنه فكرةٌ صغيرة، لا سيما بعد عودة سفينتهِ بيجل (سفينة نوح العِلم) إلى بريطانيا، ودراسته لِعيّنات، اصطادها وأخذها معه، من هذه العصافير المغرِّدة الصغيرة التي لا توجد إلا في هذا الأرخبيل فقط.

صحيح أن كثيرا من علماء الحفريات والبيولوجيا، والفلاسفة قبل داروين، كانت لهم رؤياتٌ “ما قبل داروينة”، تتّفق وما برهنته النظرية.

أي: نرتبط كبشر بسائر الكائنات الحيّة بعلاقة عضوية: نأتي جميعا من جذر واحد، نتطوّر بما يتكيف مع ظروف بيئاتنا، وننتقل خلال زمن، قد يصل إلى ملايين السنين أحيانا، من نوعٍ بيولوجي إلى نوع…

ألم يقل أبو العلاء عن وُحدة الكائن الحي:

أرى الحيّ جنسا يظل يشملُ عالمي

بأنواعِهِ، لا بُوركَ النوعُ والجنسُ!

وألم يقل عن تطورات نوعنا البشري:

جائزٌ أن يكون آدمُ هذا

 قبلهُ آدمٌ، على إثر آدم

لكن عطاء داروين الرئيس هو ما ذكّرتُ به شهد، هي التي تُدركُ هذه الأمور أفضل منّي:

= عطاء داروين يكمن في اكتشاف المفتاح الذي يفسِّر كل ذلك:

مبدأ “الانتخاب الطبيعي” الذي قاد لنظريته الشهيرة: “التطور والارتقاء”. اشتغل عليها حوالي 30 عاما. نشرها في عام 1859 في كتاب غيّر تاريخ العالم: “أصل الأنواع”. يعتبرُ اليوم، كما يقول كبار المتخصصين، في كتابٍ لهوبير ريف: أهمَّ كتب العلِم قاطبة. يليه كتاب نيوتن: “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية”.

ناهيك عن أنه “ليس ثمّة أي معنىً لأي شيء في البيولوجيا، بدون أضواء نظرية داروين”، كما يقول عنوان كتاب لعالِم الجينات الروسي: ثيودوزيوس دوبزانسكي.

قبل أن استطردَ، وشُهد تصغي لاستشهاداتي، كما لو تسمعُها لأولّ مرّة:

= اندلع “الوحيُ” بمبدأ “الانتخاب الطبيعي” في دماغ الباحث الشاب، بعد عودته للندن، ورؤيةِ اختلاف أنواع عصافير البانسون التي جلبها معه من أرخبيل الغلاباغوس، وانسجام هذا الاختلاف مع بيئة كل نوع. ثمّ بحثِهِ عن تاريخ تطور كل الأنواع الحيّة، إنطلاقا من هذا المبدأ الجوهريّ الحاسم.

ها نحن نواصل تقدّمَنا في أفياء المحيط الهادئ، نتوغّل في أرخبيل غائر لم تطأه رِجلُ إنسان حتى عام 1553. صعُبَت زيارته ربما، والحياة فيه، لأن التيارات البحرية التي تفصل جزره عاتية، تعزلها عن بعض، وتعيق السفن من عبورها بسهولة.

لكل جزيرة تاريخ وبيئة جيولوجية خاصّان بها، وظروف ولادة تجعلها تختلف عن أخواتها، وتسمح فيها لحياةِ وتطورِ أنواعٍ فريدة من الحيوانات والنباتات، تتميّز عن بقية جزر الأرخبيل.

لذلك يتنوّع شكل ووظيفة منقار عصفور البانسون من جزيرةٍ لأخرى.

شُهد وأنا في ذهولٍ كليّ، ونحن نرى قبائل السلاحف العملاقة، طيور “المُحاكي” الذي يختلف من جزيرة لأخرى أيضا، وزواحف أرضية ومائية كالإغوانا الأرضية الملوّنة، والإغوانا المائية ذات الأقدام المجنّحة… وغيرها مما لا توجد كلمات في القواميس العربية لتسميتها.

سحليات طولها أكثر من متر، داكنة، بأوجه غير سعيدة.

كذلك حال الطحالب، والطيور والأشجار: أنواعٌ بيولوجية لا تنتمي لِعالَمنا.

أزواج، ضمن أسراب مزدحمة، من “أسُود البحر” منبطحة على الشواطئ. كل زوجٍ في عناق ثنائي، ودغدغات ولِعب وتمسيدٍ دائم. عشقٌ طوال اليوم.

هل جاءت سفينة نوح إلى هنا، لِتُفرِغَ نصف حمولتها، قبل أن تزور بقية الأرض وتزوِّدها بالنصف الآخر؟

وعند وصولنا لاحقا إلى جزيرة العاصمة، سانتا كروز، استمرَّ الانذهالُ، ونحن نجد أنفسنا نسبح، ذات يوم، بين طبقات من أسود البحر، بتعايشٍ سلميٍّ واحترامٍ متبادل!

نراها أيضا على رصيف محطات السفن، في قاعات وصالات المحطّات، على السلالم… تنام على الشواطئ بكميات هائلة.

ماذا نعمل في هذه الديار؟

كم نشعر أن الإنسان متطفِّلٌ عندما يتجوّل هنا، في غير محلّه، دخيلٌ على المنظومة البيئية لهذا العالَم الغلاباغوسي الذي لا يشبهه عالَم!

قلتُ لشُهد:

= تساءلَ داروين حتما، حال هبوطه في هذه البقاع النائية: هل خلق الله كل هذه الحيوانات والنباتات التي لا توجد إلا هنا، خصِّيصاً لهذا الأرخبيل فقط؟

ثم، لماذا لكل جزيرة أنواعها البيولوجية المختلفة عن الجزيرة المجاورة، بما يتلاءم مع طبيعة بيئتها؟…

ورويدا رويدا، تفجّرت في دماغه نظرية التطور والانتقاء، البديل العلمي لنظرية الخلق الدينية.

هذه النظرية الجوهرية التي حرّرت البيولوجيا من سلطة أطروحات الدين حول أصل الحياة.

= نسف داروين هكذا مفهوم وجود إله، وشجَّع على الإلحاد؟؛ تسألني شُهد.

لزم أن أردّ سريعا، لأني أرفض المغالاة في انتهاك حرمة الدين باسم العِلم، مثلما أرفض انتهاك مجال العِلم بإقحام الدين في أموره:

= لم يشجِّع داروين يوما على الإلحاد. كان نموذجيا في الالتزام بميثاق العلاقة بين العلم والدين، ويرفض أن يتحدّث كملحد أو كمتديّن.

العلم بالنسبة له يفكِّك ويقشِّر ويفسِّر أسرار الطبيعة والحياة، كما هي، وكما يُحرِّكها قانون الانتخاب الطبيعي، بمعزل عن أية مسلّمة دينية. لكنه لا يتدخل لإعطاء اتجاهٍ أو قيمةٍ أخلاقية لتلك القوانين. هذه شؤون الدين والفلسفة.

باستعارة تبسيطية: العلم يقيس مثلاً رقم درجة الحرارة. لكن لا يقول لنا هل يلزم أن نعتبر الطقس حارا أو باردا، أو هل في ذلك خير أو شر.

القيم الأخلاقية والجمالية مجال فلسفاتِ الأخلاق والدين.

ما تبقى من أسئلة: هل ذلك محض صدفة أم لا؟ هل هي إرادة إلهية أم لا، لمن يؤمن بإله؟ هل خلق الله داروين ليكتشف أصل الحياة وقانونها، وينقل بذلك علوم الحياة، والبشرية معها، من الظلمات إلى النور؟… ليست من اختصاص العلم، ولا تُهمّه. تقع جميعها ضمن اختصاص الدين والفلسفة وحدهما.

في هذا الأرخبيل، لكل شيء تقريبا اسمُ داروين. تنتقِلُ فيه من فندق اسمه داروين، عبر سيّارة عليها عبارة لداروين، نحو فندق آخر باسم داروين، بعد أن تكون قد تناولتَ الفطور في مطعم باسم داروين، داخل إحدى جزر الأرخبيل التي تحمل اسم داروين.

تماثيلُه وصورُه في كل مكان. لسنا هنا أمام ظاهرة “عبادة الفرد”، بالمعنى السياسي، ولكن أمام تقدير إنسان أفنى حياتَه للعثور على أحد أهم مفاتيح العلم والحضارة الحديثين، قبل أن يحمل ضريحَه وزراء ونبلاء بريطانيون، لينام بجانب ضريح نيوتن في دِير ويستمنستر، بقلب لندن.

اسمه يُتوِّج اليوم أهم عمارات قاعات محضارات واجتماعات الجامعات والفنادق الدولية. صوره على عملات الجنيه الاسترليني.

وثمّة أكثر من مدينة وشارع وطريقٍ في هذا العالَم، خارج الغلاباغوس، تزهو باسمه، بما في ذلك مدينة داروين باستراليا.

أما مركز شارل داروين الدولي، هنا في الغلاباغوس، فهو تحفةٌ ومختبرٌ ومنتزهٌ فريدٌ شاسع، مدعومٌ من جامعات ومراكز دولية كثيرة (استلم جائزة السلطان قابوس للحفاظ على البيئة في 1999)، وبه باحثون زائرون من كل أنحاء العالَم.

[1] Darwin’s Finch