حرب ترموست الشاي وأخواتها

حبيب سروري

 

تاريخنا الحديث في اليمن سلسلة من حروب أهلية متسارعة الاندلاع، كل حرب أبشع وأطول وأكثر كارثية من سابقتها.

عندما كنتُ طفلا، عرفت حربين أهليتين (دامت كل واحدة أسبوعا بالكثير)، في أواخر عام 1967، بين الجبهتين اللتين خاضتا الكفاح المسلح ضد الاستعمار الإنكليزي لجنوب اليمن.

لم يعد يتذكر أحد هاتين الحربين لأنهما لعبتا أطفال، أو نزهتان عابرتان، بالمقارنة بالحروب التي تلتهما. ومع ذلك، كل واحدة منهما كانت بالنسبة لي: يوم قيامة.

بفضلهما، “اكتشفت أني أكبر خوّافٍ في الكون عندما أسمع أصداء الرصاص. يُغمى عليّ، تنتفخ شراييني، تخونني غددي العَرَقية والبولية، تفلتُ ركبتاي، ترتعش أعصابي، تنشدّ عضلاتي، ترتجف غضاريفي، تنزلق خياشيمي المخاطيّة، تنقبض حويصلاتي الهوائية، تتكلسن عصبوناتي المخيّة، أتقيأ غدّتي الدرقيّة، يهاجمني سعالٌ ديكيّ وآلامٌ حادّة في النخاع الشوكي والعمود الفقري والطحال المنفلوطي، وأصابُ بصرعِ القرود وجنون البقر”…

بدأ الجدّ بعد هاتين الحربين: كنت في “جولَة كريتر”، في قلب عدَن، في العاشرة صباحاً من يوم 13 يناير/ كانون الثاني 1986 عندما انفجرت الحرب بين تيارين في الحزب الحاكم “الذي لا صوت يعلو فوق صوته”.

ولأنه كان زمنُ بلاغةٍ خشبية لا تتكرّر، فكان لكل تيار اسم: “الطغمة”، و”الزمرة”.

اختبأتُ، مع زبائن البنك المجاور للجولة، في سراديبه تحت الأرضية، عشرة أيام، بدون أكل، وبماء شحيح.

عشرة أيام وليال قضيّناها نرتجف، دون توقّف، من لعلعة ودويّ الأسلحة الثقيلة والخفيفة، على بعد أشبار من البنك، ومن قصف المدرعات وأسلحة الطيران والسفن في الوقت نفسه.

لم تكن حربا كبقية الحروب. كانت مذبحةً جماعية. زلزالا حطّم الأخضرَ واليابس، الجدرانَ والأسسَ والمداميك.

زلزالٌ كلُّ ما يليه في السنوات والعقود القادمة هو النكبة والنكسة عينها. إذ لا تكمن تراجيديته وخرائبه في الأيام التي تفجّر فيها فقط، لكن في ازدياد تضاعف هذه الخرائب والتراجيديات مع مرور الزمن.

هكذا كانت مذبحة “13 يناير”: نهاية شيءٍ ما، وحلمٍ ما، إلى الأبد: فاتحةُ خرابٍ جذريٍّ نهائي، أسوأ وأشنع مما سبقه، يزداد إلى الآن يوما بعد يوم.

أنهار دماء سالت خلالها في كل أحياء عدَن. 13 ألف قتيل خلال عشرة أيام. ليس ذلك الأهم ربما. الأهم والأبشع: كيف حدثت هذه الشناعات، وكيف مرّت تلك الأيام، وماذا تركتْ بعد ذلك من تداعيات وعواقب، حتى اليوم؟

كانت مذبحة تدميرية شاملة، بلا أخلاق، كشفتْ حجم الشرّ والشيطنة في النفس البشرية.

بدأتْ، كما يعرف الجميع، بِترموست شاي يحمله حارسٌ إلى مقعد الأمين العام للحزب (رئيس الزمرة)، قبل مجيئه للاجتماع، حيث ينتظره بقيةُ أعضاء المكتب السياسي، خلا أعضاء المكتب السياسي الموالين له من الزمرة.

قبل مغادرة باب الصالة، يدور الحارس ليطلق النار على أعضاء المكتب السياسي الحاضرين!

واااااو!

هكذا، بكلِّ سهولة، بعد رُبع قرنٍ من كفاحهم المسلّح المشترك لتحرير عدن وجنوب اليمن من الاستعمار الإنكليزي، ثمّ بنائهم “أول تجربة اشتراكية علْمية في العالَم العربي”، يتبادل “رفاق الثورة والنضال” رصاصاً في الظهر!

غدرٌ صارخ: الأمين العام كان مختفيا خارج عدَن، مع بقية أعضاء الزمرة من المكتب السياسي. وما مجيء ترموست الشاي إلا تمويهاً فنيّاً يسمح بدخول الحارس للقاعة، لإيهام الحاضرين بأن كل شيء على ما يرام، والاجتماع قائم، والأمين العام قادمٌ بين دقيقة وأخرى.

أي لمن لم يفهم بعد: لم يكن ترموست الشاي، ووابل رصاص الرشاش في أظهر الحاضرين، غير صفّارة بدء المجزرة.

من ينسى صفارات بدء مجازر الغدر الكبرى في أحلك أيام العصور البائدة؟:

500 من قادة المماليك يدعوهم محمد علي بمناسبة سفر جيشه في حملةٍ للحجاز بطلبٍ من “الباب العالي”.

ينظّم جلالته حفلا سلطانيا متخما بألذّ الموائد وأطيبها لتكريم المماليك. أكلٌ وفير، شرابٌ هبط من أنهار جنّة الفردوس، وغناء لا أعذب منه.

ثم يدعوهم لتوديع الجيش الذي يسير أمامهم في طريقٍ منحدرٍ تمّ اختياره بعناية.

خلفهم فريق من العسكر الألبان أعطاه “عزيزُ مصر” مهمةً خاصّة.

ثم طلقة نار (كلمة السر، صفارة بدء المجزرة)، ويحصد العسكرُ الألبان المماليكَ بالنيران من الخلف.

غير بعيد من هناك، بجانب باب قلعة القاهرة، كان محمد علي باشا “مُطنطنا”، يدخن غليونه بهدوء…

قبل ذلك بقرون، ملِكَان يحتفلان بتوقيع هدنة، في مائدة شهيرة يُطلَقُ عليها”مائدة رافين”، باسم المدينة الإيطالية التي سيتم فيها التوقيع، بعد قليل.

الأول ملك تدعمه الإمبراطورية البيزنطية، والثاني ملك تدعمه الإمبراطورية الرومانية.

المدعوون للمائدة مئات، بل آلاف، من قادة الجيشين وكبار الأعيان.

يجلس حول المائدة كل ممثل من الإمبراطورية الأولى بجانب كل ممثل من الإمبراطورية الثانية، لتعميد حفلة التآخي والسلام والصداقة بين الشعوب. وليمة إمبراطوريّة، لحوم فاخرة، شراب معتّق خاص، وغناء أخوي مشترك، تتخلله دردشات ثنائية مترعة بالحب والصفاء.

ثمّ يقف الملك البيزنطيّ ليفتتح رسميا حفلة الصداقة وتوقيع الهدنة، بشرب نخبٍ بصحة الملك الرومانيّ وعساكره وديوانه وأعيانه.

تدق الموسيقى (كلمة السر، صفارة بدء المجزرة): يُخرِج كل مدعوٍّ من المملكة الأولى خنجرَه ليضعه في مركز قلب جاره الأيسر من أبناء المملكة الثانية.

بعد صفارة غدر 13 يناير، تتفجر الحرب التي استعدَّت لها الزمرةُ منذ أشهر، وانتصرتْ فيها الطغمةُ، لأن موازين القوى كانت لصالحها.

غدرُ الزمرة، ثم التصفيات الانتقامية الحاقدة المضادة التي قامت بها الطغمة (بمجرد فحص البطاقة الشخصية لهذا أو ذاك، وملاحظة أنه وُلِدَ في منطقة هذا القيادي أو ذاك من الزمرة!) كشفَتْ الوجه القبلي والمناطقي القبيح لمن لبسوا قناع الماركسية اللينينية.

انتهتْ بعدها تجربة الاشتراكية العلمية في اليمن، سقطت كل المكاسب الاجتماعية، وماتت دولة النظام والقانون. أقفَلَتْ “الكلية العليا لعلوم الماركسية اللينينية” أبوابها، نسي الجميع كلمتهم الأثيرة: ديالكتيك، وأضحت الأرضية جاهزة للانتقال من تطرُّفٍ إلى آخر: تطرّفُ السلفية والظلامية التي أرساها العائدون من أفغانستان، بالتحالف مع أسوأ طاغية كان يحكم شمال اليمن، ثم استولى على اليمن كليّة (بعد الوحدة اليمنية)، وحوّل جنوبه إلى غنيمة حرب له ولقبيلته وأعوانه، ولكل السلفيين والظلاميين، لا سيما بعد حرب جديدة أخرى، أبشع وأفتك من حرب 1986، في 1994، عندما غزت قبائله وأنصاره وجيشه خلالها جنوب اليمن وامتهنه كلية، وقضى على كل رموز التقدّم والمدنية فيه: من وضع المرأة والتعليم التنويري، إلى التقاليد الإدارية المدنية والقوانين الحديثة كقانون الأسرة (بعضها بمستوى قوانين تونس اليوم)، مرورا بمصنع البيرة: صيرة!

ثم حروب صعدة الستّة، في مطلع الألفية الحالية، التي خاضها الطاغية ظلما وبهتانا ضد سكّان صعدة (ذوي الانتماء الطائفي “الشيعي”) وقتلَ فيها: “القرآن الناطق”: أخ الكهنوت الصغير الذي يحكم صنعاء الآن.

ثمّ ثورة ربيع الشباب في فبراير/ شباط 2011 التي بدأت أروع بداية، وفتحتْ كل الأبواب للحلم والتغيير، قبل احتوائها سريعا بعد انضمام جزء من الجيش لها، وتحويلها إلى حرب عسكرية، بين جناحين متضاربين على السلطة، كانوا جميعا في خدمة الطاغية، واختلفوا في الأساس فقط حول الموقف من عزمِهِ على توريثَ الحكم لابنه.

ثمّ تنحيةٌ طفيفة (حسب اتفاقية سياسية بائسة فرضتْها الدول الخليجية المجاورة) للطاغية الذي رفض أن يغادر أو ينخلع. ظلّ بيده كل شيء، لا سيّما الجيش والمال ورئاسة الحزب الحاكم.

تحالفَ بعدها مع من خاض ضدّهم الحرب في صعدة، للانقلاب على نائبهِ (أحدِ رموز “الزمرة” سابقا، وتلميذِه الأوّل في فن الحكمِ البائسِ الفاسد، منذ أكثر من عقدين) الذي حلّ رئيسا محله، وصار اليوم قائد “الشرعية”، منبع الخراب الآخر لليمن.

نجح الكهنوت والطاغية في تحالفهما، وبدآ حربَهما الساحقة هذه، التي لم تنته بعد، بتدمير عدَن، ثم تعز.

جلب سريعا عدوانُهما الداخلي هذا عدوانا خارجيا دعتْ له “الشرعية” الفاسدة، يستخدم أحدث الأسلحة لتخريبٍ موازٍ لليمن، لا يقل عن تخريب العدوان الداخلي.

ثلاث سنوات تقريبا، منذ بدأت هذه الحرب الكارثية الجديدة، والطويلة جدا. الأكثر طائفية وشناعة واستنزافا وتمزيقا لليمن، من طرفهِ إلى طرفِه.

لم تعد اليمن فيها غير أرخبيل قطاعات للمليشيات (وإن تحرّرتْ عدَن مثلا من غزوِ الانقلابيين)، يتقاسمها القراصنة والسلفيون، ويعبثُ بها عساكر أطراف التحالف العربي، ومن يدور في فلكهم من المليشيات والقوى المحلية.

تتشظّى يوما بعد يوم، تحترقُ بصمت، تموت على نارٍ هادئة، بدون اكتراث العالم.

سؤال جوهري: لماذا لا ندرس كل هذه الحروب معا، نُحلِّلها طويلا كظاهرة واحدة، نستخلص عبرها جميعا، بدلا من نسيان كل حرب سابقة، لتبدأ، أسرع من قبل، أختٌ لها، أشنع وأطول وأفتك مما سبقها من الحروب؟