الجملة الأولى في الرواية: منبع السرد

 

(شهادة حبيب سروري عن الجملة الأولى، في تحقيق مع روائيين عرب، أجراه الأستاذ حسين حمزة)

تصميم الفقرة الأولى من الرواية، لا سيّما جملتها الأولى، لحظة تكوينية ذات أهمية فنيّة خاصة. هي المدخل، الفاتحة، المفتاح، ومنبع السرد الذي يسيل النص بعده حتى الجملة الأخيرة.

يلزم هذه الفقرة وضعَ أوّل طوبات النص وخطوطه التشكيلية من ناحية، والبحث عن جذب القارئ وتخديره وسحره وإسقاطه في مطبات الرواية من ناحية أخرى.

لكل ذلك، اختراعها لحظةٌ صوفية ذات أهمية استثنائية. ليس للرواية فحسب، لكن للسيمفونيات وللنصوص الهامّة الكبرى.

من ينسى افتتاحية السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، “الفصول الأربعة” لفيفالدي، فاتحة الإلياذة بغضب بطلِها أخيل، أو الآيات الأولى من التوراة والقرآن، بل أحيانا الآيات الأولى لبعض السورات (أعشق مثلا هذه البداية: “والعاديات ضبحا، والموريات قدحاً”)؟

من لا يتذكر العبارات الأولى لرواية “البحث عن الزمن الضائع” لبروست، “آنا كارينينا” لتولستوي، “بروكلين فوليس” لِبول أوستير، “العاشق” لمارجريت دوراس، “نساء” لِفيليب سولرس؟

فيما يتعلق بي، لحظةُ كتابة الفقرة الأولى، لا سيما جملتها الأولى، هي إحدى أصعب وأهم اللحظات الروائية قاطبة.

روح النص بأكملهِ يتكثف في طلعة هذه الفقرة غالبا، كما يلاحظ النقاد دوما.

أتذكّر ناقدا مغربيا، في يوم دراسي في 2006 عن أعمالي الروائية في الدار البيضاء، تطرّق إلى بعض جملي الأولى، مثل هذه في رواية “طائر الخراب” (الطبعة الثانية، رياض الريس 2011):

“إلهام تَسْبحُ قُربِي بأناقةٍ ومِهَنِيَّة. لا أحد حولنا، في هذا الضحى الربيعيِّ الدافئ، سوى أسراب النورسِ والفراشات المُلوَّنة.”.

ولهذه الجملة الأخيرة في الرواية نفسها: “…وأن أبْصُقَ عن قُرْب في وجهِ طائرِ الخراب”.

لاحظ الناقد تكرّر كلمة “القرب” في الجملتين، بما يعكس روح الرواية وبحثها الحميم عن الاندماج “بقرب” بأحشاء الحياة الجمعية اليمنية، والخوض في محرّماتها وممنوعاتها، والأسباب العميقة لآلامها الكبرى…

لن أتحدث في هذه الشهادة الصغيرة عن مختلف استراتيجيات اختراع الفقرة الأولى من الرواية وجملتها الأولى، لكن سأختار نموذجا واحدا فقط من تلك الاستراتيجيات، مارستُهُ في روايتين، بشكلين مختلفين: الانطلاق من حُلم لتكوين الفقرة الأولى في الرواية!

الجملة الأولى من أوّل رواياتي بالعربية، “دملان” (دار الآداب، 2009) تبدأ بتحديد موضع منزل الأستاذ ع.ش.ب “في العمارةِ الصغيرة التي تقع في ركن شارعنا، بين صيدلية سقراط ومكتبة المُعرّي.”…

سيبدو لاحقا أننا في بداية حلم، تنطلقُ منه، وتواصلهُ خلال أكثر من 400 صفحة، روايةٌ تدور في معمعان أديم الواقع!…

أما الفقرة الأولى لآخر رواية لي: “حفيد سندباد” (دار الساقي، 2016) فهي تنطلق من حلم صغير راود الراوي يوم 31 يوليو 2027 الذي تدور خلاله معظم الرواية.

يدور الحلم في الماضي، في منتصف السبعينات من القرن الماضي:

“عشيةُ ظهور نتائج امتحانات الثانوية العامة كنتُ أسير قلقٍ غامض. لاحظت ذلك معشوقة صباي، فِريال، عندما كنّا نختلي سرّاً في كثيبٍ رمليٍّ قصيٍّ في ضواحي عدَن، في تلك الليالي الفردوسية من منتصف السبعينات الجهنمية.”

سمح لي الانطلاق من الحلم، في الروايتين، بالدخول في صلب السرد كما أحب، بعد تأثيث الخطوط الأولى من لوحة المكان في “دملان”؛ وبعد نقش الخطوط الأولى من الأزمنة والأمكنة المتداخلة في “حفيد سندباد”.

روائي يمني*