الحياة السريّة للأشجار

حبيب سروري

كيف ترى الكائناتُ الغابة؟

هي “سوبر ماركت” بحجم الكون في أعين الطحالب والحشرات والعصافير والحيوانات؛ مصنعٌ للأوكسجين ورئةٌ للعالم، من وجهة نظر الكرة الأرضية.

هي واحة التسَتّر والحرية للعشّاق اللاجئين إليها. ومشروع جهنم (فريسةٌ بحجم الكون) لـِ”البيرومان”: المريض المهووس بإحراق الغابات.

 

وكيف أراها؟

تختلف رؤيتي لها في حياتي الأولى، عنها في حياتي الثانية.

في حياتي الأولى، كنتُ طالبا أسكن في غرفة جامعية تطلّ على غابة. ألجأ إليها في نهاية العصر غالبا لأمشي طويلا، وأمارس قليلا من الرياضة في أنحاء منها هُندِستْ لِتحوتيَ على ألعاب رياضية مصنوعةٍ من خشب الغابة. ولأشاهد غروب الشمس وهو يتخلل أغصان علياء الغابة، ولأتفاعل مع كل شيء يحيطني. كل شيء، إلا ــ سامحني الله ــ الغابةَ نفسها!

 

كان يثيرني جدا منظر رجل وامرأة يصلان كل يوم، بَعدْي بقليل، بسيارتين من جهتين مختلفتين. يغادرانهما في اللحظة نفسها، يمشيان نحو منتصف طريق، ثم يرتصان وسط ذلك الطريق الذي أعبره يوميّا، ويلتحمان معا، كتمثال واحد، في عناقٍ لا ينتهي.

ظننتُ في البدء أنهما يلتقيان هنا كل يوم، بعيدا عن العالَم، لخيانةٍ في نفس يعقوب.

ثمّ غيّرتُ رأيي خلال أيام، لأنهما لو أرادا التستر وممارسة العناق فقط، لاختفيا في إحدى السيارتين، بدلا من الانتصاص المكشوف، في قلب الطريق.

أيقنتُ بعدها أنهما يمارسان طقوسا حميمة تقودهما، بعد الدوام الرسمي وقبل ساعات الحياة الحقيقية، للالتحام، كشجرتين واحدتين، بجذعين ملتصقين وأغصان متعانقة، كتلكما الشجرتين المواجهتين لباب مقصورة إمبراطور وإمبراطورة “المدينة الممنوعة” في بكين، والمكتوب أسفلهما:

“لِنكنْ هكذا شجرتين بالأغصان نفسها، لِنكنْ طائرين بالجناحين نفسهما!”.

 

في حياتي الثانية، صرتُ أذهب للغابة بين الحين والحين، في كل فصول السنة. ليس لرؤية آثاث الغابة وزخرفاتها من ألعاب خشبية، وطرق سيرِ ومسرحيات غرام البشر، لكن للاندماج الصوفي في الغابة نفسها، والتوحد العضويّ معها قلبا وقالبا.

 

ما إن تكون السماءُ في غاية الزرقة، والضياءُ في أوْجِه، حتى أهرع بلا وعي نحو الغابة.

كلوروفيلُ أوراقِ الشجر يمارس حينها، بأقصى طاقته وملَكاته، عمليةَ “التخليق الضوئي”، ممتصّاً ضوء الشمس وثاني أكسيد الكربون، ليضخّ الغابةَ والكون والحياة بأطنان من الأوكسجين.

 

أستلقي على أرض الغابة، فوق قطعة قماش أحضرها معي أو على الأوراق والعساليج الجافة المبعثرة، بين فرعين أرضيين لجذع شجرة بلوط ضخمة، أو صنوبر أو صفصافة باكية. يحتضنني الفرعان يمينا ويسارا كمسندَي ذراعي سرير.

أصغي لتنفس الأعشاب، لحفيف أوراق الشجرة، للحركة الدموية للنسغ، وللماء الذي يصعد من جذرها نحو القمة (أتساءل: بأي آلية فيزيائية يتم ضخُّهُ نحو أغصان القمة؟!).

أصغي لنمو الأشجار، وحواراتها الثنائية. وأتعلّم أبجدية لغتها (لأن للأشجار لغة فعلا!). أشاهدها أمامي، بأعين عاشقة، في تكافل وتناغم وعناق دائم.

 

ألاحظ: الفرعان الأرضيان الملتصقان بي عن يمين وشمال يمتدّان بعيدا على الأرض، ليلتصقان بفروع أشجار مجاورة، ويتشعّبان عموديا نحو الأسفل، باتجاه جذر شجرتهما الأم المتغلغلِ في عمق الأرض، والملتحم بجذور الشجر المجاورة.

 

الغابة شبكة إنترنت: أليافها الضوئية هي هذا الاتصال العضوي بين الجذور، وبين الطحالب التي تغطي فروع الجذور، وتنتشر في كل عمق الغابة. يبلغ طولها آلاف الكيلومترات المشتبكة بعضها بالبعض.

شبكة إنترنت حقيقية، يتواصل عبرها مجتمع الأشجار الراقي. يتعاون معا وهو يمد بالغذاء جذورَ الجارات من الأشجار المحتاجة. ويتبادل المعلومات عبر الشبكة أيضا عند هجوم هذا الحيوان أو تلكم الدود والطحالب الفتاكة. يتبادلها أحيانا عبر إفراز روائح تحذيرية خاصة تستوعبُ مدلولَها الأشجارُ المجاورة الشبيهة.

 

بفضل ذلك، تستطيع بعض الأشجار مقاومة التهام الحيوانات أو الحشرات لأغصانها: تفرز مادة سامّة وتبعث في الوقت نفسه رسائل لجاراتها من الشجر عبر إنترنت الغابة، لِتُجبر المعتدي على الهروب بعيدا نحو أشجار لن تصلها سريعا رسائل الجذور والروائح التي تنذر باعتدائه!

 

ثمّة بالمقابل تنافسٌ بين أشجارِ مجتمع الغابة: يكفي رؤية تنازع فروع وأغصان رؤوس الأشجار على مساحات الضوء القادم من السماء، وتضارب فروعها وجذورها في الأرض بغية التوسع في الفضاء واحتلال المكان…

 

أراقب كثيرا، في حياتي الثانية، مورفولوجيا جذوع الأشجار وفروعها. أعجب بالشجر ذات الجذوع السامقة المشرئبة، وهي تعانق الشمسَ وتنتشر وسط جيرانها من الأشجار، على نحو متناغم يحترم ميثاق صداقة الأشجار وأدبياته.

أسخر من الشجر ذوات الجذوع الهزيلة الكسلى، وهي تُلقي بفروعها على أكتاف جاراتها ذوات الجذوع الأصلب، أو تتكئ هنا أو هناك، معتمدة على غيرها في الوقوف وسرقة ما تيسّر من الضوء.

أرثي من الأعماق الشجرات ذوات الجذوع الأفقية المنحنية، بسبب عواصف أو ثلوج جعلتها تبدو حدباء مصابة بعاهات مؤلمة، وأخضعت قاماتها لإرادة قدَرٍ لا يرحم…

 

أتمعّن كثيرا بلحاء الأشجار، حيثما كنت. ما أشبههُ بجلد الإنسان! المسامات والفلوع التي تتخلله، وطبقة الفلين من الخلايا الميتة التي تغلفه (لِحمايته، كما تفعل بشرة جِلدِنا الإنساني)، يعود تشابهها مع جلودنا لتاريخ مشتركٍ جمعَنا معا، قبل مليارات السنين، عندما كنا في طور مشترك من أطوار رحلة التطور البيولوجي الدارويني.

لكلينا: يمكن معرفة العمر من رؤية البشرة!

 

جراحُ الأشجار في أرجاء اللحاء (بسبب إنسانٍ كتب اسم حبيبته بالسكين عليها، أو بسبب هجوم حشرات مثلا) أضحت تثير سخطي وأحزاني، في حياتي الثانية: صرتُ ألج الغابة في الحقيقة، كما يلج الإنسان مدينةً فاضلة يقدِّسها، أو كما يدخل جامعا أو كاتدرائية لا يطيق أن يلطِّخ جدرانَها وفسيفساءَها أحد.

 

كم باعد التطور البيولوجي بيننا، عالم الحيوانات وعالم الشجر، منذ افتراقنا في شجرة سلالاته التطورية الشاهقة!

فعدا جلودنا، وعدا نظام تنفُّسِنا، وعدا لغتنا في التواصل مع الآخر الذي نحتاجه دوما، ومقدراتنا الذكية أحيانا، شجرا أو حيوانات؛ وعدا عدد آخر من الوظائف الحيوية المشتركة؛ عدا كل ذلك، لم يعد بين دُنيا الإنسان ودُنيا الأشجار كثير من نقاط الالتقاء اليوم، كما هي جمّة تشابهاتنا نحن البشر مع بقية الحيوانات:

فللأشجار مثلا علاقة أخرى مع الزمن تختلف عن علاقتنا به: يتجدد جينومها سنويا في الغالب، وتستطيع مقاومة الشيخوخة، بل الخلود، لولا ظروف الحياة وقيودها القاسية غالبا.

تعيش الأشجار أطول بكثير منا، في كل الأحوال. وبعضها يحيا قرونا، بل آلاف السنين أحيانا.

 

ثم إيقاعُ حياتها وانتشار غذائها وتواصلها الإنترنيتي وحركتها عموما: بطيء جدا.

كم هو حميدٌ هذا البطء اليوم في عصر السرعة والعجلة المجنونة!

لذلك أميل أكثر فأكثر لِلّجوء إلى الغابات لِغسل روحي ببطئها المبارك. أضع هاتفي حينذاك في “وضع الطائرة”، ثمّ أحلِّق فعلا في صلاة خشوع في محراب الطبيعة، بعيدا عن جنون العالَم.

 

يقودني التأمل في تاريخنا البيولوجي المشترك، إلى زمنٍ لحق تاريخَنا المشترك، بدأ قبل مئات الملايين من السنين، وذلك في غابات أشدّ ثراء وجمالا من غابات أوربا وشمال العالَم الباردة، وأكثر منها حياة دافقة دائمة: الغابات الأفريقية الاستوائية.

التنوّع البيئي هناك، والروائح المسكرة وسيمفونيات الأشجار والعصافير لا مثيل له. أشجار الزنجبيل والنارجيل والفواكه الاستوائية امتلكتني هناك ذات يوم، كما لم تمتلكني أشجارُ أية غابة.

 

لم يخالجني حسدٌ لمهنة إنسان، مثلما خالجني هناك وأنا أرى خبراء دوليين يجولون بسياراتهم اللاندروفر في طرق الغابة، على آذانهم وفي سياراتهم أجهزة إصغاءٍ واستقبال، ومعدات الكترونية، ترسم بيانيا منحنيات التنوّع البيولوجي في الغابة، وتحصي أعداد الأنواع التي توشك على الانقراض، ويوميات تكاثرها واندثارها، بدقّة شديدة.

يمارسون وظيفتهم هذه بحريّة مطلقة، في أروع مسرحٍ كونيٍّ لا بهاء كبهائه. ترافقهم الدهشة ورعشاتُ جمال الحياة، ورغبةُ الحفاظ على البيئة، في كل حركةٍ وسكنة.

 

يقودني ذكرى الغابات الإستوائية الأفريقية نحو أختٍ شهيرة لهم، لا تقلّ جمالا. تقع في ماليزيا.

بين قمتي جبلين في طرفي تلك الغابة، يمتدّ دربٌ خشبيٌّ هوائي، ممرّدٌ بالحبال السميكة، يمرّ فوق علياء الغابة.

يعبره السوّاح مستندين يمينا ويسارا على حائطين خشبيين ارتفاعهما حوالي مترا ونصف، يسمحان برؤية الجبال المحيطة، والنظر من جانبي الدرب الخشبي نحو الأسفل، حيث تتزاحم وترتصّ رؤوس أشجار الغابة التي نمشي فوقها.

 

لم تفارق مسمعي السيمفونيةُ الإلهية الكثيفة التي كانت تصعد من أحشاء تلك الغابة. اختلطت فيها أغاريد وأهازيج العصافير، وتنفُّس الشجر وحفيف الأوراق وهمس النباتات، بأصداء السيمفونية نفسها وهي تتأرجح بين قمم الجبال المحيطة…

سحرٌ لا سحر مثله!

 

عشقتُ الغابات منذ تلك السيمفونية التي طالما استعدتُها قبيل النوم، لأسافر عبرها قبل أن أغفو مباشرة، نحو قدس أقداس الجمال الكوني.

ثم زاد عشقي للغابات كمجتمعات راقية أليفة، بعد رؤية صداقات أشجارها وتنافسها، وبعد معرفتي بأسرار قاعها كشبكةٍ للإنترنت، وذلك بفضل كتاب جميلٍ في محتواه وصورِه، للألماني المختصِّ بالغابات: بيتر هوليبين، استعرت عنوانَه البديعَ لِمقالي هذا: الحياة السريّة للأشجار!