موت عزرائيل، أو مشروع إبادة الموت

حبيب سروري

 

يحتفل المسيحيون اليوم، ١ نوفمبر، ب “عيد الموتى” الذي تحوّل في بعض الدول إلى عطلة رسمية عامة لتذكّر كل الموتى، ووضع الورود على قبورهم.

قبلُه بيوم، 31 أكتوبر، “عيد الهلويين” ذو الأصول الوثنية كما يبدو، والذي كانت له علاقةٌ ما، هنا أو هناك، بالاحتفال بموت “كل القديسين”، عشية عيد الموتى.

لاحظتُ بالصدفة، في هذا اليوم الأخير نفسه، أن هوَس تذكّر حياة الماضي يجتاح اليمن أيضا، خلال ما أطلق عليه: “عيد النبش الوطني”!

لم أر فيه صفحة يمنية واحدة على الفيسبوك لم يضع فيها صاحبُها صوراً قديمة له، وهو في أوج شبابه!

 

ماذا لو بقي الإنسان أبدا في عمر تلك الصور، وقضى، إلى أبد الآبدين، على البعبع الذي لا يفارقه الخوفُ منه، منذ أزل الآزلين: الموت.

 

إليكم أمّ البشارات:

الموت يقترب من أيامه الأخيره. أي من عقوده الأخيره. أو من قرنَيْهِ الأخيرين، في أقصى تقدير.

فالأبحاث جارية على قدم وساق لهزيمة الموت، وتحويل الإنسان إلى كائنٍ جديد خالد: “هومو دوس”، Homo deus، الإنسان الإلهي.

ستنتهي البشرية حينها ربما من متاعب السماوات والجنة والنار والعذاب الأليم.

 

شركة كاليكو وغيرها التابعة لغوغل، تشتغل على مشروع تخليد الإنسان (مليارا دولار لذلك!).

يقودها باحثون مقتنعون بمشروعهم ومصممون على “كسر قرن وحيد القرن الأسطوري”، لا يختلفون عزما وطموحا وإذهالا عن بقية “أبناء ستيف جوبس” (مثل الشاب الملياردير ايلون ماسك، “محقِّق أحلام البشر”: صاحب الشركة الفضائية سبيس إكس، صاحب شركة السيارة الكهربائية الذكية تيسلا ومُصمِّمها، وقبلهما شركة باي بال، والذي أسس أخيرا أكثر شركات الذكاء الاصطناعي طموحا وإدهاشا اليوم).

بعض خبراء كاليكو يقولون إن الوصول إلى الهدف لن يكون قبل عام 2200، فيما أكثرهم تفاؤلاً يضعه لعام 2050.

 

سيمرّ الهدف، في كل الأحوال، بمراحل عدّة. أوّلها مضاعفة متوسط عمر الإنسان، الذي يدور حاليا حول 85 عاماً في الدول المتطورة، والذي كان بنصف هذا الرقم في عام 1900، وذلك بفضل تطوّر الطب، لا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين. وبفضل هزيمة العديد من الأمراض باللكمة النهائية القاضية، وبفضل اللقاح والمضادات الحيوية…

دون نسيان الفضل الكبير للتطوّر الحضاري لسكان الأرض، حيث لم يعد يتجاوز عددُ ضحايا قتل الإنسان لأخيه الإنسان، اليوم، واحداً فقط لكل 100000 مواطن، في العديد من الدول المتقدّمة، بعد أن كان هذا القتل الفردي يبيد أكثر من 15٪ من سكان هذه الدول نفسها في القرون الماضية!

أتحدّث هنا عن القتل بالاعتداء الفردي، دون الحديث عن إحصاء قتلى الحروب (التي اختفت، هي الأخرى، تقريبا من المعمورة، في عصر العولمة).

 

يكفي ملاحظة أن متوسط عمر الإنسان ارتفع في هذه الدول المتقدمة 3 سنوات، خلال ال 15 سنة الماضية فقط:

يفسِّر ذلك انتشار أمراض السرطان لدى بعض المسنين في هذه الدول (يموت الناس غالبا قبل الوصول لهذه الأعمار في الدول الفقيرة)، بسبب أن الخطَّ البياني لسرعة تغيّر الجينات البشرية وهي تتلاءم داروينيا مع تغيّر سياق حياة الإنسان، بطيءٌ بطبيعته، لا يستطيع مواكبة سرعة زيادة عمر الإنسان بفضل التطوّر السريع للطب، وتحسّن جودة حياته عموما.

 

ما زال كثير من الأطباء متحفظاً حول نجاح مشروع تخليد الإنسان. لكن أقلية تزداد يوميا تنضمّ إليه.

في كل الأحوال، لم يعد الموت منذ زمن طويل، مسألة ميتافيزيقية، بل، كما يقول يوفال هاراري، صاحب كتاب “هومو دوس”، مشكلة تقنية: عدوى بميكروب، انسداد شريان، خلل جيني…

لكل ذلك أضحت وظيفة ملاك الموت: عزرائيل، كصانعٍ للموت، فائضةً على اللزوم، مثل وظيفة أخيه ميكائيل الذي كان يظن البشر قديما أنه سبب نزول الأمطار!

 

قريبا من هذا المشروع الاستراتيجي البعيد المدى، ثمّة مشاريع قريبة جدا للتحقيق، ذات أهمية خطيرة جدا، لا يشك من نجاحها اليوم أحد، ستساهم في إنجاح ذلك المشروع الاستراتيجي: تغيير جينوم الجنين قبل ولادته!

 

لأذكِّرْ: كلا المشروعين يقعان في تخصص ما يسمّى بالبيوتكنولوجيا، التي تمثّل، مثل الذكاء الاصطناعي، أبرز مجالات التنافس بين من سيسيطرون تماما على كرتنا الأرضية غدا.

 

الأبحاث والنتائج في مجالات تغيير جينومات الجنين تتقدّم بشبه سريّة كاملة، بسبب خطورة الموضوع وحساسيته، وبسبب اتفاقيات دولية (لم تُوقِّع عليها بعض الدول كبريطانيا) تحدّ منها.

فبعد أن انتهى في عام 2003 فك أسرار جينوم الإنسان وقراءته كلية، انطلقت مشاريع تغييره، بواسطة تقنيات “المقصّات الجزيئياتية” التي تقتلع هذه الجينة أو تلك (ذات الخصائص الوراثية الضعيفة، أو التي تحمل مرضا وراثيا)، واستبدالها بأخرى…

كل ذلك يتمّ على غرار عمليات “القص والنسخ” في ملفات النشر الكمبيوتري، عندما يتم مسح كلمة خاطئة واستبدالها بأخرى صحيحة، أو استبدال جملة ضعيفة بنصٍّ جميل…

 

الهدف: خلق بشر أفضل صحيا، أكثر أو أقل طولا، أقوى ذاكرة…

الجدير جدا بالذكر هنا: نجحَتْ كثير من هذه التجارب التجميلية على أجنة الفيران وبعض الميكروبات، وثمّة نجاحات لا يتم الحديث عنها كثيرا فيما يتعلق بأجنة الإنسان أيضاً!

حضرتُ ندوةً هامة في كوليج دو فرانس (ندوة افتتاح عام 2017) عن موضوع تغيير جينات الأجنة، وجدلاً خصبا بين باحثين إنجليز وفرنسيين ورجال قانون (تمّ إلغاء كل الاستراحات خلال الندوة لشدّة الرغبة في الاستفادة من كل وقتها!).

 

كل ذلك يبدو أقرب إلى الخيال، لكنه حقيقة.

في كل الأحوال، لا تحلم، عزيزي القارئ، أن الخلود ينتظرك قريبا، إلا إذا كنت بصحة جيدة في عام 2050 أو بعده، وتمتلك بضعة ملايين أو مليارات، كما يقول صاحب كتاب هومو ديوس…

 

شخصيا، لا أشك في أن العلم سيقهر الموت، ولو بعد خمسة قرون. وأسخر من الآن من ذلك الجيل الذي لن يعود قادرا على استيعاب بيت شعرٍ كهذا:

ألا ليت الشباب يعودُ يوماً

لأخبرهُ بما فعل المشيب!

لأن الكلمة الأخيرة، المشيب، ستكون هي الأخرى فائضة عن اللزوم، غير موجودة في القاموس!

 

بانتظار ذلك، لنبحثْ فقط، نحن أبناء هذا الجيل المسحوق، عن السعادة الكثيفة في حياتنا الصغيرة الفانية!