مسرح الغرقى والمنكوبين

حبيب سروري

 

منذ 2015، يتجه عشرات آلاف الهاربين من حروبِ وطغاةِ أوطانهم (من أفريقيا حتى أفغانستان، مرورا بسوريا)، نحو البحر الأبيض المتوسط.

للوصول إليه، يعبرون “دروباً صليبيّة” يذوقون خلالها كل الأهوال، بما فيها الاغتصاب والتعذيب أحيانا، أو البيع في “سوق العبيد”…

 

ثمّ يدفعون آلاف الدولارات (كلّ مدخرات حيواتهم) لِمُهرِّبين جشعين قراصنة، يرمون بهم وسط مراكب مهترئة، يختفون فيها داخل ثلاجات تبريد بجانب سمكٍ ولحومٍ مثلّجة، أو يقفون فيها مرتصين كأسنان المشط، لا يستطيعون المشي خطوة واحدة لقضاء حاجة… قبل أن يتبعثروا بين أمواج البحر الأبيض المتوسط الذي أضحت طيّاته العميقة اليوم مقابر تضمّ أكثر من عشرة ألف لاجئ، منذ 2014.

 

“اللاجئون لا يجيدون السباحة”، كما يقول عنوان فيلم، على اليوتيوب، يحوي شهادات لاجئين تعصر الروح، وتدمي الكبد.

 

يصل بعضهم أخيرا إلى القارة العجوز التي اخترع فيها الإغريق مفهوم الديمقراطية، وابتكرت فيها الثورة الفرنسية مفهوم “حقوق الإنسان” وشعار “حريّة، مساواة، أخوّة” (الذي امّحتْ منه الكلمة الثالثة كما يبدو، إن لم تنطمر من القاموس أيضاً).

 

يقول المخرج المسرحي البلجيكي الفلامندي الكبير جي كاسييرس، مخرج مسرحية: “حدود”، Borderline، (Grensgeval بالهولندية)، ومدير مسرح مدينة أنفير البلجيكية:

“اللاجئون هم الأوربيون الأخيرون” المؤمنون وحدهم بهذه الشعارات الأوربية الإنسانية (التي نساها غالبا، أو تنكّر كثيرا لها، الأوربيون أنفسهم)، وهم يتّجهون إلى أوربا، باعتبارها ملجأ الإنسانية المعذّبة الضائعة.

 

في كل لاجئٍ عولس، ولكل لاجئ أوديسيا عبوره المتوسط.

ولهم جميعا حلمٌ واحد: الوصول إلى إيتاكا، جزيرة عولس، حيث تنتظره زوجته بينيلوب: أوربا.

 

مسرحية “حدود”، التي نالت أعجابا كبيرا في مهرجان أفينيون 2017، مستخلصةٌ من وحي نصّ أدبيٍّ للهولندية إلفرييد جيلينِك، الحائزة على جائزة نوبل، كتبَتهُ في عام 2013، قبل انفجار تراجيدية اللاجئين بعامين.

تنبأت عبره بتراجيديا الهاربين إلى أوربا عبر المتوسط، وما زالت تواصل إثراءه يوميا في “بلوج” لها على الإنترنت.

لعلها الصوت الإنساني الأهم دوليا، المسكون بهذه التراجيدية.

 

اللجوء عبر المتوسط إلى أوربا تحدٍّ هائل يواجه القارة العجوز اليوم. تنحدر المواقف إزاءه من أقصى الإنسانية، إلى أقصى اللا إنسانية.

 

في أقصى المواقف الإنسانية المضيئة، ثمّة سفن المنقِذين المتطوِّعين، مثل أكواريوس الأوربية، التي أنجتْ من الغرق أكثر من 21 ألف لاجئ حتى اليوم، منذ مزاولة عملها الإنقاذي في 7 مارس 2016 (الذي انقذت حتى نهايته 13991 لاجئ).

 

تُمشِّط هذه السفينة البحر المتوسط، ليل نهار. تتوّزع مراكبها وتجول عدسات نواظير مُراقيبها أرجاءَ البحر في كل الاتجاهات، بحثا عن اللاجئين.

تصرف يوميا 11 ألف يورو، ثمن استئجارها وحاجاتها، تأتي 99٪ منها من تبرعات المواطنين الأوربيين فقط، و1٪ منها، لا غير، من مصادر حكومية.

تضمّ السفينة طواقم طبية، مترجمين، فرق انقاذ، بحّارة… جميعهم من المتطوعين الأوربيين.

 

تسكنهم جميعا صدمةُ لحظة مواجهة اللاجئين، وما يسمّونه: “رعب النظرة الأولى”. أمّ الصدمات. حياة المنقذِين وليالِيهم مهووسة بذكريات تلك اللحظة، تلك النظرة.

تبدأ بعدها أصعب المهام التي تواجه المنقذِين والأطباء: تعويد اللاجئين على سماع كلمات مثل: “أهلا”، “السلام عليكم”، “صباح الخير”، “عفواً”… وإعادة شعورهم بوجود روح الأخوّة والتعاضد على هذه الأرض، وإمكانية استعادة الكرامة فيها، عبر التعامل معهم بإنسانية لا غير، بعد أن كفروا قطعاً بالإنسان!

 

عديدة حالات النساء الحاملات اللواتي أنجبنَ في السفينة بعد الإنقاذ مباشرة، أو المرضى والغرقى الذين نجوا من الموت بأعجوبة لا تُصدّق.

 

وفي أقصى المواقف غير الإنسانية، تقع ردود اليمين المتطرف التي تعرقل هذه السفن بسفنٍ مضادة، لتمنعها من الإنقاذ وضيافة اللاجئين، بحجة أن أوربا “لا تتسع لكل هموم العالم”، وبذريعة مقاومة “غزو المهاجرين لأوربا” و”كبح جماح مدّ الهجرة”…

وكذلك بعض مواقف الحكومات الأوربية الجبانة التي تُفضِّل تقديم المساعدات أحيانا للفرق العسكرية في حدود شمال أفريقيا، أو المليشيات والعصابات المسلحة، لِحثّها على منع سُفن المهاجرين من الوصول إلى حدود أوربا، مع علم تلك الحكومات بما يمارسه هؤلاء العسكر والمسلحون من عنفٍ ضد اللاجئين، واغتصاباتٍ جنسية فظيعة أحيانا.

 

بين القطبين الإنساني واللاإنساني، تتموضع كل المواقف الأوربية الأخرى من قضية اللاجئين؛ بدءاً بتلك التي تحاول أن تتناسى تراجيديات غرقى المتوسط ومنكوبيه، أو تتهرب من مساعدتهم، إلى تلك التي تحيد النظر، تزيغه، لِتقفزَ إلى مواضيع أخرى عند الخوض فيه…

 

تتمحور مسرحية “حدود” حول موضوع اللاجئين إلى أوربا عبر الأبيض المتوسط، وحول موقف المواطن الأوربي منه.

لا تبحث المسرحية عن إسالة دموع المُشاهد، أو هزّ مشاعره. همُّها أن تتداخل كل الأصوات وزوايا النظر من هذه القضية، على نحو تعدّدي متوازٍ، في صيغة إبداعية متميزة عبقرية.

 

تخلو ساحة المسرحية من سفينة أو بحر. تملؤها أكداس من الممثلين، تختلط أجسادهم كالدود، تلتصق وتتماوج. يعلوهم قضيب أفقي ضخم، يجبرهم على الانحناء ويمنع أجسادهم من الحركة.

ما أصعب منع راقصي فريق مدرسة الرقص الملكية الشهيرة لمدينة أنفير من الرقص!

 

في ركن المسرح، أربعة أوربيين على طاولة، يراقبون من بعيد حركة تلك الأجساد الساكنة جدا.

من هم؟ أربعة أصوات أوربية؟ أعضاء سفينة إنقاذ؟…

 

عبارات المسرحية تصل آذان المُشاهدِ كالمسامير.

أحد الأربعة: “لو كنتُ مثلهم لا أعرف السباحة، لما ركبتُ السفينة!”.

آخرُ يأخذ للاجئين وهو يراهم من بعيد صورةً يُرَّكِنها في زاوية في الآيفون…

 

ألوانٌ داكنة في كل المسرح. جداره الخلفي مرايا ضخمة ترتسم فيها، بتماوجٍ مائي وانحرافاتٍ واعوجاجاتٍ فنيّة، أجسادُ اللاجئين، وأوجه المشاهدين الأربعة. تمتلئ الشاشات حينا بوجهٍ فقط، بنظرات تعبيرية حادّة تهزّ المشاهد، أو بمسحٍ بانورامي يستوعب كل المشهد حينا آخر.

الشاشات سيلٌ من رعشات درامية لا تتوقف.

 

بعد مرحلة عبور البحر، تبدأ اللحظة الدرامية الأشد خدشاً: اللقاء وجها بِوجه بين اللاجئين والمشاهدين الأربعة. السواد يطمّ المسرح وملابس الممثلين.

عبارات مثل: “تمّ استثلاجي في ثلاجة تبريد”، أو: “بعد إخراجي من وضعي الثلجي…” تُجمِّدُ قلب المشاهد.

الشعور العام بالخجل سيد الموقف.

 

ثمّ المرحلة الثالثة الأخيرة: بدءُ حياة جديدة في أوربا لهؤلاء اللاجئين، تُلخِّصها عبارة صمّاء: “نحن هنا، ونحن لسنا هنا”.

حينها تختلط حيواة المشاهدين الأربعة بحيوات اللاجئين، وتتوحد أصواتهم ورجفاتهم جميعا بِرجفات مُشاهد المسرحية…

 

قبل مهرجان أفينيون، كانت هذه المسرحية قد مُثّلت في كنائس وساحات أوربية، وقام أحيانا بالتمثيل فيها لاجئون حقيقيون، حكى كل واحد فيها ما ذاقه شخصيا من آلام.

 

يجدر الإشارة أيضاً إلى أن فريقا من خمسين لاجئ قَدّم عرضاً في مهرجان أفينيون 2017. بالإضافة إلى مسرحيات أخرى مسّت قضايا اللاجئين، وندوةٍ في “ورشات الفكر” في المهرجان كُرِّست للنقاش حول تراجيداتهم. ضمّت مُنقذين، أطبّاء ولاجئين…