البرهان الآتي من خارج الفضاء

حبيب سروري

 

لماذا لا توجد جائزة نوبل في الرياضيات؟

سؤال خطرَ بالتأكيد على بال معظمنا، هنا وهناك. الإجابة الشهيرة التي يرددها معظم الناس: تعمّد عالم الكيمياء السويدي الفريد نوبل إبعاد الرياضيات (“ملكة العلوم” كما تسمّى مع ذلك) من المجالات التي تعطى فيها جائزته، والتي وهب لها ثروته الكبيرة التي جناها من براءة اختراعه للديناميت (وكأنه يكفِّر بذلك عن “ذنبه”)!

السبب، كما يقال: خانته خطيبته ذات يوم مع عالم الرياضيات السويدي الأكبر: جوستا ميتاج ليفلير، ولا يريد لذلك أن تُعطى جائزته يوما لمن يغير منه ويحقد عليه!

 

بعد تحقيق المؤرخين لهذه الفرضية، تبين بما لا يدع مجالا للشك أنها نبعت من همس ولمز لا علاقة لهما بالحقيقة، بل لا يمكن احتمال حدوثها “من شقٍّ أو طرف”: مجرّد إشاعة تافهة لا غير.

 

السبب الحقيقي هو أن ملِكة العلوم كان لها، وما زال، حظ الأسد من أهم الجوائز السخيّة، أكثر من غيرها من بقية مجالات العلوم، بالتأكيد. كان لها في السويد جائزة كبيرة عند ظهور جائزة نوبل مثلاً.

 

تثير جوائز الرياضيات اهتماما خاصا في الغرب، لا يقلّ عن الاهتمام بجوائز نوبل، بل يتجاوزه أحيانا، لا سيّما في إحدى هذه الجوائز الخاصة بالرياضيات: جائزة فيلدس.

الأغرب: في مجتمعاتنا العربية يكاد لا يعرف أحد أخبار هذه الجوائز، وأهم من نالوها ولماذا نالوها.

جائزة آبِل Abel مثلا التي تقدمها النرويج سنويا مثال ساطع على ذلك. جائزة Wolf، وجائزة Craford السويدية مثالان آخران.

ثمّ هناك جائزة مفتوحة قيمتها مليون دولار لمن يحل إحدى إشكاليات قائمة الألفية الثالثة في الرياضيات، يقدِّمها معهد كلاي، Clay، في الرياضيات، منذ عام 2000.

 

غير أن الجائزة الأكثر إثارة وتشويقا ربما هي ميدالية فيلدس، Fields، التي يقدِّمها الاتحاد الدولي للرياضيات كل أربعة سنوات، منذ عام 1936، لأهم بحث في الرياضيات لباحث لم يتجاوز الأربعين عاماً.

لماذا 40 عاماً تحديدا؟

الاعتقاد السائد: قمة الإبداع العبقري والطاقة والعطاء المميّز للباحث في الرياضيات تتحقق قبل بلوغ الأربعين، شأنها ربما شأن زمن ثراء الطاقة الشبقية (ليبيدوس)!

صحيحٌ أن الإبداع والإنتاج لا يتوقف بعد الأربعين لعلماء الرياضيات، بل تتسِع تجاربهم وخبراتهم البحثية أكثر. لكن إذا أُخِذ كل ذلك بالحسبان معا، فتظلّ لسنوات ما قبل الأربعين مقدرات تخييلية تسمح بكسر الأقفال الكبرى التي تواجه البحث العلمي في الرياضيات، وطاقات استثنائية تضمحل قليلا بعد الأربعين!

 

يكفي استعراض اسماء من نالوا هذه الجائزة، ولماذا، لمعرفة سبب أهميتها العلمية، ولتفسير سرّ شوق ورجفات الكثيرين، في معظم دول العالم، بانتظار اسماء من ينالونها.

إثنان منهم يستحقان تسليط الضوء عليهما هنا، وإن كانا من أهم شموس العلم اليوم وأكثرهم شهرة. كُتِب عن حياة كلٍّ منهما كتب كثيرة وروايات: الروسي جريجوري بيليرمان، والفرنسي سيدريك فيلاني.

 

الأوّل كان عضوا في معهد ستيكلوف في الرياضيات في سان بيترسبورج (الذي يشكِّل مع معهد ستيكلوف في موسكو قدس أقداس الرياضيات الروسية، لاسيما في الزمن السوفيتي)، لكنه استقال منه لرفضه لظواهر الحسد والنرجسية، والعلاقات اللانسانية التي تسود الباحثين فيه، كما يرى جريجوري.

ها هو يعيش بشكل متصوِّف في حيٍّ متواضع من مدينته، في شقّة صغيرة بجانب أمِّه!

 

كان عبقريا استثنائيا منذ صغره، غريب الأطوار أيضاً. ثمّ اشتغل بصمت دون أن يعرف ذلك أحد، خلال سبع سنوات، على إحدى إشكاليات الألفية الثالثة في الرياضيات: “إشكالية بوانكاريه” التي وهبها كثيرون عقودا من حيواتهم، ولم يستطع حلّها أحد، منذ صياغتها من قبل الفرنسي بوانكاريه في عام 1904.

 

بعد سبع سنوات من الاختفاء، كتب جريجوري المقال الأول (أكثر من 40 صفحة مركّزة جدا) ضمن سلسلة ثلاثة مقالات تشكِّل جميعها برهانا كاملا يحلّ الإشكالية.

لم يقدِّم جريجوري مقاله لمؤتمر علمي أو لمجلة علميّة، لأنه يرفض الطقوس التقليدية الأكاديمية، بل وضعه بكل بساطة للعامة من الناس، على الإنترنت في عام 2003!

 

بعد 3 أيام من ذلك، يستلم دعوة من معهد MIT لتقديم محاضرات لشرح نتائجه التي بدت سريعا مدهشة مثيرة.

ثم ينتشر الخبر كالنار في الهشيم، في كل أنحاء العالم. يضع جريجوري بعد ذلك المقالين الآخرين.

آلاف الباحثين تهرع لسلسلة محاضراته في MIT، بينهم أهم علماء الرياضيات. يعود لبيت أمِّه بعد ذلك رافضا كل العروض الجامعية الأمريكية السخيّة بالبقاء هناك.

 

يخصِّص معهد كلاي مليون دولار ل “عصابة الأربعة” (تضمّ 4 علماء متخصصين كبار) لدراسة المقالات الثلاث، ولتقديمهم معا في كتاب من 600 صفحة يبسّط براهينهم العميقة المكثفة، ويجعلها في متناول الجميع. صدر الكتاب في عام 2006 الذي أقرّت فيه رسميا صحّة برهان جريجوري.

بشكل موازٍ، يحاول عالما رياضيات صينيان كبيران الدخول على الخط، وإعادة صياغة براهين بيليرمان بطريقتهما، وعلى نحو يسمح اعتبارهما جزءاً من مكتشفي البرهان!…

 

الجميع متفق على أن برهان بيليرمان جوهرة في تاريخ الرياضيات. “برهان آتٍ من خارج الفضاء”، كما يقال عنه غالبا، من شدّة فرادته ونوعيته وعبقريته، ومن ثراء الأفكار والمفاهيم الجديدة التي اخترعها.

 

من الممتع كثيرا قراءة رواية “إشكالية بوانكاريه”، لجورج سبيرو، وهي تحكي أدبيا سيرورة البرهان، دون الدخول في تفاصيله من قريب أو بعيد. تتابعه سرديا ومجازيا وإيقاعيا فقط، خطوة خطوة. ترى فيه في آن واحد: مزيجا من اختيارات استراتيجيٍّ عسكريٍّ مراوغ، جرّاح ماهر يقوم بعملية في منتهى الخطورة والتعقيد، ساحر استعراضي، وموسيقار عظيم.

 

تبدأ برؤية اختيارات بداية البرهان كما لو كانت اختيارات قائد استراتيجي لحروب عسكرية. ثم تتابع تطور البرهان، صفحةً صفحة، وتشبهه معظم الوقت بحِرفية الجراح وهو يفاوض الجسد، يتقدّم بمهارة دون الانزلاق أو الوقوع في هذا المطب أو ذاك (يتلافى جريجوري بذكاء، وبطرق جديدة، الوصول لنفس العراقيل التي انكسرت فيها سفن الباحثين قبله)…

ثم أثناء هذه الفقرة أو تلك من البرهان، ترى الرواية جريجوري كالساحر وهو يخرج من قبعته أرنبا. تصغي الرواية طوال الوقت لموسيقى نص البرهان، المكتوب بإنجليزية متينة راقية، لا توجد فيها كلمة واحدة زايدة على اللزوم، أو جملة لم تقال، أو حتّى خطأ مهمٌّ ما!…

 

عندما وقف ملك أسبانيا في مدريد في عام 2006 أمام آلاف الباحثين الذين أتوا من أرجاء العالم لرؤية جريجوري وهو يستلم الجائزة، لم يكن الأخير حاضرا بكل بساطة، لأنه رفض الجائزة!

ثم، بعد ذلك، نال جائزة أخرى بمليون دولار من معهد كلاي لأن الإشكالية التي حلّها تقع في رأس إشكاليات الألفية، لكنه رفضها أيضاً!

 

أين هو الآن؟ لا أحد يعرف عنه شيئا. أصار مجنونا؟ أيُعدّ مفاجأة أخرى للعالَم؟…

 

الفرنسي سيديريك فيلاني، الذي نال هو أيضاً جائزة فيلدس في عام 2010، إنسانٌ من نوع آخر. لعله أشهر وأهم عالم فرنسي معاصر. صوره في كل مكان. يترأس حاليا معهد بوانكاريه للرياضيات بباريس.

لم يكن منعزلا طوال حياته الطلابية وحتى اليوم، بل العكس تماماً. ترأس نادي الطلبة في مدرسته العليا ENS، ويميل للتفاعلات الاجتماعية الكثيفة والأسفار الدائمة، والنشاطات المتنوعة، على الصعيد الأوربي عموما.

لا يتوقف عن إصدار الكتب البحثية المتخصصة، أو التدريسية التي تبلور الأفكار للطلبة بطرقٍ سهلة تحبيبية، أو عن تحرير وإدارة الكتب الموجهة للعامة. اسمه في كل مكان.

أصدر أيضاً رواية: “نظرية حيّة” تحكي سيرورة حياته حتى نيله جائزة فيلدس.

 

لم ينعزل سبع سنوات لنيل الجائزة، لكنه، بعد تعثرٍ دراسيٍّ هنا وهناك، وبعد تقاعسٍ في عام الدكتوراه الأول، بدأ بتطوير نتائج أربعة علماء في الرياضيات في أطروحة دكتورته، وبنسج جسور بين حقول متباعدة في الرياضيات والفيزياء النظرية، لتطوير نتائجه. ثمّ هو ماكنة تساؤلات دائمة، وشكّ وطاقات.

يرفض التقوقع في هذه الخانة أو تلك. ينطلق لبناء اختراعاته من محاكاة نتائج الآخرين أولاً، ثم من تطويرها في كل الاتجاهات، ثم من إضافات متواصلة جديدة لها بفضل ثقافته الشاسعة المتنوعة…

 

أين هو الآن؟

في كل مكان. خلال أسبوعين، في إبريل 2017 الماضي، أعطى 15 محاضرة في مدنٍ متنوعة مما كانت تسمّى يوغسلافيا سابقا!

واليوم ها هو مرشح للبرلمان الفرنسي ضمن حزب الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون، الآتي هو أيضاً من جيلٍ شبابيٍّ عولميٍّ متشابه، مذهلٍ في تفاعلاته الابتكارية مع الواقع والحاضر والمستقبل، لا يختلف في ذلك عن جيل قادة وادي السيلكون في كاليفورنيا: مؤسِّسَي غوغل، مؤسس فيسبوك، مؤسس SpaceX…