اليمن في أعين العالم:

بين الجذب الفانتازي والازدراء الدائم!

 

حبيب سروري

 

“يثير اليمن في أعين العالم أحلاماً فانتازية سحيقة، لكنه ضحية إهماله وازدرائه!”، قال مُصيباً الباحثُ في العلوم السياسية، لوران بونوفوا، وهو يشير إلى عدم الاكتراث الدولي بالحرب الحالية التي تكتسح اليمن وتعصف به.

نحن هنا أمام مفارقة جليّة بوجهين (أحدهما جذّاب، والآخر شنيع)، سنحاول تسليط الضوء حولها في هذا المقال.

الوجه الشنيع لهذه المفارقة هو هذا الإهمال الدولي الذي يتجاوز لسوء الحظ الخرائب المعاصرة لهذه الحرب. إذ هو كليّ الحضور: يشمل أيضا الإنتاج الثقافي والفني لهذا البلد، تراثه الأركيولوجي والفلسفي والعلمي… لدرجةٍ تجعل اليمن يبدو بلداً مصابا بلعنة مستديمة في أعين الكثيرين!

 

كلمتان أوّلاً عن الوجه الفانتازي السعيد لهذه المفارقة: كما يعرف الجميع، انبثق هذا الوجه وتشكّل على أطلال حضارات “العربية السعيدة” العريقة، الحقيقية والميثولوجية معاً؛ وبفضل فنٍّ معماري فخور استثنائي (ينطلق فريدا من شبام حضرموت: “منهاتن الصحراء”، إلى صنعاء القديمة والمدن والقرى الجبلية في ملكوتها الشاسع)؛ ومن عوالم نادرة عذراء مثيرة كأرخبيل سوقطرة، تهامة على البحر الأحمر، ومدينة رامبو السحرية: عدَن…

حتّى هذا الوجه الفانتازي الباهر للمفارقة مجهولٌ في الحقيقة لدى الكثيرين، أو يُحاوَلُ صبغُهُ أحيانا بالظلال، بل برقعتُه أيضاً، كما هو حال علاقة آرثور رامبو بعدَن:

 

مكث هذا “الشاعر التعجيزي” بعدن حوالي 34 فصلاً، كما أوضح الأنثروبولوجي المتخصص باليمن فرانك ميرمييه.

الأكثر إثارة وسرّاً: داهمه اسم عدَن وذكراها قبيل وفاته في مرسيليا، وتمنى أن يسافر إليها مع أخته إيزابل وابنها.

همس آرثور لإيزابِل (“الشاهدة الرئيسة” على اللحظات الأخيرة من حياة رامبو) رغبته في الوفاة في عدن، كما ذكر ذلك فيليب سوليرس في “صحيفة الأحد” ب 29 نوفمبر 2009، وكما سرده مطوّلاً في روايته: “شقّة صغيرة” (غاليمار، 1997).

استشهدُ هنا بما كتبته إيزابِل، التي التهمها شيءٌ ما يشبه الغيرة كما يبدو من عدَن، في نصِّها “أخي آرثور” [1]:

((عدن صخرٌ مكلسن تحت شمس دائمة؛ عدن حيث لا يهبط الندى من السماء إلا مرّة كل أربع سنوات، عدن حيث لا يُزرع غصنُ عشبٍ ناعم؛ حيث لا يقابل المرء أدنى ظليل! عدَن حمّامُ عرقٍ تغلي فيه الأدمغة وسط جماجم تتفرقع، تذبل فيه الأجساد… آه، لماذا عشقت تلك العدَن، لماذا عشقتها إلى حدِّ أمنيتك أن تكون موطن قبرك؟!))

مفارقة اليمن الكبرى تتكثف على نحو آسر رائع في هذه العلاقة الصوفية بين رامبو ومدينة الجمال المراوغ، عدَن.

الغريب هنا أن كثيرين من المتخصصين برامبو يذكِّرون بالصفات الجغرافية والمناخية العدَنية السيئة، التي تذمَّر منها رامبو، مخفيين علاقته الحميمة بهذه المدينة التي “يصف فيرلين بالصدفة، في وقت متأخر لاحق، أن رامبو عاش فيها حياة لذيذة جداً” (“شقّة صغيرة، ص. 180).

 

لنعدّ الآن للوجه الشنيع من مفارقة لوران بونوفوا. فعلا، لعل الحرب المعاصرة التي تستمر منذ أكثر من عامين أسطع برهان لها.

نادرٌ في الحقيقة أن تجد بلداً يعاني من تجاهل دولي له، فيما يعيش بين مطرقة وسندان غزو داخلي وخارجي [2]، تهدده مجاعة شاملة، منغلق في سجنٍ تحت سماء مفتوحة تمنع هجرة أبنائه، كما يفعل أبناء سورية.

 

على ذكر البلد الشهيد الآخر: كانت سورية حاضرة جدا لحسن الحظ في جدل مرشحي الرئاسة الفرنسية. لكن من انتفض منهم لأجل اليمن، أو ذكر اسمها بكل بساطة؟

 

عدم الاكتراث التي تتألم تحت وطأته اليمنُ لا يخصّ فقط حياتها السياسية وخرائبها المعاصرة، لكن أبعاداً شتّى في ماضيها وحاضرها، وبشكل خاص مجمل حياتها الثقافية.

 

مثال ناصع: في محاضرة للبروفيسور أحمد جبّار (أحد كبار المتخصصين في تاريخ الرياضيات العربية في القرون الوسطى) في جامعة لوهافر، شرحَ مختلف المساهمات العربية لحلّ معادلات الدرجة الثانية، منذ صياغة هذه المعادلات بطريقة جبرية جديدة اخترعوها لوحدهم، حتى طرائق الحلول المبتكرة في كل مدرسة عربية (من بغداد حتى قرطبة، مرورا بالقاهرة) بفضل حركة الأفكار بين شرق وغرب الإمبراطورية الإسلامية.

في ختام المحاضرة، سأل باحث فرنسي هذا السؤال المفاجئ: بدلاً من كل هذه الطرائق التقريبية في الحل، المستندة على الهندسة الإقليديسية، ألم يخطر بدماغ أحد علماء ذلك الزمن البحثُ عن حلٍّ صائب لهذه المعادلات، عبر صيغٍ تحدِّد جذورها إنطلاقا من أرقام معاملاتها مباشرة، بدون اللجوء إلى الهندسة الإقليديسية، كما نفعل اليوم في رياضياتنا الحديثة؟

 

كان الردّ صاعقا للجميع: (ظهر فجأة اسم اليمن الذي لم يُذكر طوال المحاضرة. لم يكن لِيُلفظَ فقط دون سؤال الباحث!).

“بعيدا عن كل المدارس التقليدية، خطرت هذه الطريقة ببال شخصٍ ما في… اليمن!”

كان عالم الرياضيات اليمني، ابن الجلّاد (1390)، في كتابه “المدوناتُ الدريّة في استنباطِ الصناعة الجبرية” الموجود بدار المخطوطات بصنعاء، واعياً في البدء أن العائلات الجوهرية الثلاث لمعادلات الدرجة الثانية تنبثق من معادلة واحدة.

الأهم: كان على نحوٍ خاص أول من أدخل واستخدم العلاقة بين جذور هذه المعادلات وأرقام معاملاتها!

طريقته الراقية العبقرية الحديثة (التي لا تلجأ إلى الطرق الهندسية التقريبية التقليدية القديمة) تأسست لسوء الحظ في بلدٍ مهملٍ بعيد، وفي فترة تاريخية “ضعفت فيها الأبحاث العلمية في الرياضيات” [3].

 

الانتاج الأدبي اليمني يعاني هو الآخر من هذا القمع الخانق. الرواية اليمنية أفضل مثال يُجلي ذلك.

رغم تبرعمها ووفرتها الملحوظة، ورغم تطورها المتصاعد المتكئ على واقع يمني ثري بمواد خام روائية استثنائية، يظلّ نشر الرواية اليمنية هامشيا وضيقا على الصعيد العربي والدولي.

ومع ذلك، تنهل هذه الرواية، على نحو رائع، من تعقيد الحياة الاجتماعية اليمنية، وتتغلغل في أحشائها الأكثر عمقا، وتحاول أن ترتفع دوما إلى مستوى ثرائها التاريخي النابع من كوسمولية مدينة عدَن قبل أكثر من نصف قرن، من ماضيها الماركسي ـ اللينيني والمتقلب بعد ذلك، من مختلف عصور الإمامة في صنعاء حتى اليوم، من حياة الأقليات والطوائف اليمنية ومعاناة المرأة ويوميات السجون، مروراً بكل الحروب والثورات والأحلام والعشق والأنس والطرب اليمني الأصيل الدائم…

 

كي تكون روايتك مرئية عربيا، يلزمك أوّلا عدم طباعتها في اليمن. علاوة على ذلك: بخلاف البلدان العربية الأخرى (من المغرب حتى دول الخليج، مرورا بالسودان) لا توجد مسابقات وجوائز روائية عربية في اليمن. والجوائز في العواصم العربية لا تُتوِّج يمنيّاً على الإطلاق. ولا تستفسر حتى عن سبب غياب الرواية اليمنية عن هذه المسابقة أو تلك.

 

ترجمة الرواية اليمنية إلى الفرنسية مثلا يعاني من فقرٍ شديد. لا توجد أكثر من ست أو سبع روايات يمنية مترجمة أو مكتوبة بالفرنسية مباشرة، بينها واحدة فقط في دار نشر كبيرة مهمة [4].

 

ما سبب هذا النفي لليمن من مسرح الحضارة الدولية؟

أهي لعنه أن تكون أفقر دولة عربية، محاصرة جغرافياً بأكثر دول العرب ثراء، وأشدّها انغلاقا وسلفية؟

أم هي لعنة التاريخ: اليمن التي كانت حتى القرن السادس ذات حضارة ونفوذ أقليمي غازٍ ومتوهج، محكومٌ عليها، منذ مجئ الإسلام في شمال الجزيرة العربية، بحياةٍ خافتة وفناء متواصل حتى يومنا هذا؟…

أسئلةٌ عديدةٌ للباحثين!

 

المراجع:

 

[1] « Rimbaud mourant », livre d’Isabelle Rimbaud et Eric Marty. Première publication dans Le Mercure de France, le 16 mars 1919 (posthume).

[2] http://www.liberation.fr/debats/2017/03/10/le-yemen-entre-la-tragedie-et-la-catastrophe_1554785

[3] La circulation des mathématiques entre l’orient et l’occident musulmans: interrogations anciennes et éléments nouveaux. Ahmed Djebbar, dans « From China to Paris: 2000 years transmission of Mathematical ideas », edited by Y. Dold-Samplonius & all, Franz Steiner Verlag Stuttgart 2002.

[4] http://orientxxi.info/lu-vu-entendu/voyage-aux-racines-de-la-guerre-yemenite,1798