ماذا لو استيقظ الخوارزمي؟

حبيب سروري

 

اتساءل أحيانا: ماذا لو بُعث اليوم من جديد أحد أعظم علماء “بيت الحكمة”، مؤلف “المختصر في الجبر والمقابلة” و”الجمع والتفريق في الحساب الهندي” وغيرها، عبقريّ الرياضيات والفلك والجغرافيا، محمد بن موسى الخوارزمي (780­ ــ 850م)؟

يبدو لي أن مفاجأتين ستعصف به سريعا. الأولى سعيدة جدا، والأخرى شديدة الإيلام.

المفاجأة الأولى: سيلاحظ أنه العالِم الوحيد، من كل علماء الماضي والحاضر، الذي لا يمرّ يوم واحد دون أن يُذكَر اسمه ضمنا في أهم صحف ومجلات العالَم!

نعم: الوحيد!

 

فغيره ممن ارتبطت اسماؤهم مثلا بوحدات قياس كهربائية، كواط (نسبةً لجيمس واط)، تُذكر أسماؤهم ضمنا عند الحديث عن تلك الوحدات القياسية فقط. لكنها مجالات ذِكرٍ نادرة في كل الأحوال، ترتبط بالكهرباء، في حال واط.

وثمة آخرون سُمّيَت مدنٌ بأسمائهم، من أستراليا إلى الإكوادور، وصالات محاضرات وعمارات جامعية بلا عد؛ وتوجد عملات نقدية تحمل صورهم، كما هو حال داروين؛ لكن ذكر اسمائهم في الصحف والمجلات، رغم ذلك، ليس يوميا مثل حال مولانا الخوارزمي؛ إذ يرتبط فقط بالحديث بين الحين والحين عن نظرياتهم وسيرات حيواتهم!

 

أما هو فاسمه يوميّ الإشراق، في الحقيقة: يقضي كل الباحثين في كل فروع العلوم، من البيولوجيا إلى الجغرافيا، مروراً بعلوم الكمبيوتر والرياضيات والفيزياء، نصفَ حياتهم في البحث عن “خوارزميات”.

آه، هذه الكلمة الجليلة التي دخلت قاموس العالَم منذ بضعة عقود فقط، مشتقّةً من اسم عالمنا النبيل!

فبفضل هذه الكلمة، عندما تفتح أية صحيفة كبرى، ستجد في مقالٍ ما اسم الخوارزمي.

ما رأيتُه اليوم مثلا: مقالا يتحدث عن خوارزميات الفيسبوك وغوغل التي لعبت دوراً في نجاح ترامب للرئاسة الأمريكية، وآخر عن بنية خوارزميات بعض الدول لِمراقبة وكشف الإرهابيين، وآخر في مجلة فلسفية يستشرف خوارزميات الذكاء الاصطناعي المستقبلية، وآخر عن خوارزميات تأجيج إدمان الإنسان للشبكات الاجتماعية، وآخر عن أول مرشح رئاسي فرنسي صاغت خوارزميةٌ كل برنامجه الانتخابي، وهلمّ خوارزميات تخلِّد اسم صاحبنا الأثير…

 

حتى عند الحديث عن وصفة طباخة، صارت كلمة “وصفة” تُستبدل مجازاً أحياناً بخوارزمية!

الحق أن الخوارزمية تعني وصفةً منهجية، بلغة محددة دقيقة، لحلّ هذه الإشكالية أو تلك، ويمكن تحويلها آلياً إلى برمجية تُنفَّذ على الكمبيوتر.

 

لماذا ارتبطت هذه الكلمة الجوهرية الفذّة باسم مولانا الخوارزمي؟ ولماذا منح العالَمُ هذا الشرفَ الاستثنائي لعالِمنا الجليل؟

لاستيعاب ذلك، يكفي العودة للقرن التاسع الميلادي واستحضار مستوى العِلم والفكر آنذاك، وملاحظة الأهمية الحاسمة للنقلات والثورات التي ابتكرها هذا العبقري الخالد، ومعه العلوم العربية عموما آنذاك.

 

كانت الأعداد قبل ذاك تُكتب بالأحرف الأبجدية غالباً جدا أو بمنظومات معقّدة، باستثناء حال بعض البقاع الهندية. رقم 28 مثلا يكتب: XXVIII في الترقيم الروماني.

يصعب بالطبع قراءة أعدادِ هذا النظام، وإجراء العمليات الحسابية بهذه الوسيلة الترقيمية.

 

للخوارزمي الفضل في تعميم الترقيم العُشري الحالي (المسمى: بالأرقام العربية، والمستوحى من منظومة أرقام هندية مختلفة)، ذي الأبجدية المكوّنة من 10 أحرف (تبدأ بصفر، وتنتهي بتسعة)، وبلورة ذلك للعالَم أجمع، بفضل مؤلفاته التي أصبحت مرجع الجميع.

تبدأ كل صفحة في بعض الترجمات الأوربية لها بهذه العبارة: “قال الخوارزمي” Dixit Algorizmi.

 

ليس ذلك فقط، لكن الخوارزمي نفسه من اخترع علم “الجبر”، لتصبح هذه الكلمة العربية، بعد ذلك، الاسمَ الدولي لهذا العلم الجديد.

سرد ابتكاراته في هذا المجال شاسعة. كمثَل: عندما ترى أمامك صيغة كهذه:

3x2+2x+5=0

فاعلم أن كلّ شيء فيها جاء بفضل الخوارزمي!

فهو أول من اخترع فكرة المتغيّر الرياضي x، وأسماه “شيء”، قبل أن تصل هذه الكلمة العربية بدورها إلى أسبانيا وتلفظ في لغتها القديمة: “إكسي”، ثم تغزو أوربا بعد ذلك بصيغتها النهائية: “إكس”.

ما المعادلات الرياضية، وما علم المنطق الرياضي، بل وما كل العلوم، لو كانت بدون استخدام المتغيرات والمجاهيل التي اخترعها صاحبنا العزيز؟…

 

ثمّ هناك هذا الرقم الخطير: 0، في المعادلة السابقة، الذي يعود أصله كرقم إلى بعض سياقات الحساب في الهند. لكن لم ينل موقعه الجذري الحالي بين كوكبة الأرقام العشرة، ولم يستخدم في الحسابات الجبرية، ويتعمّم على العالَم، إلا بفضل الخوارزمي.

منه جاءت كلمات: Chiffre, Zéro في اللغات الأوربية.

 

ليست كل هذه المقدرة التنظيرية التجريدية الفذّة وحدها ما جعلت العالَم المعاصر يُطلِق اسم الخوارزمية لتخليد اسم عالمنا الفذ.

السبب الأكبر: الرياضيات قبل الخوارزمي كانت في الجوهر هندسة أقليديسية، ورسمٌ لأشكال هندسية في الأساس، تُستخدم لحل هذه الإشكالية العملية أو تلك، لا غير.

 

جاء الخوارزمي ليحوّل الرياضيات إلى لغة ومنهج يسمحان بتنظير تجريدي كليّ.

شرح مثلا نظرية معادلات الدرجة الأولى والثانية في الرياضيات بلغة دقيقة استخدم فيها مصطلحات جديدة: “الشيء”، “الجذر” (الرقم الذي يحلّ المعادلة)، “الدرهم” (الرقم الثابت في المعادلة)… تنضاف لاختراعات عربية جديدة في المفاهيم الرياضية، لا سيما في “حساب المثلثات”، كمفهوم “ظل” الزاوية…

قسّمَ هذه المعادلات إلى ستة أنواع.

أعطى لكل نوع وصفةً منهجية لِحلّه (أي: خوارزمية)، تلاها ببرهانٍ رياضي دقيق، بلغته الرياضية الجديدة.

 

لعلّ هذه اللغة المنهجية الجديدة هي إحدى أهم عطاءاته الفكرية. بها ارتفعت مقدرات التنظير الرياضي، لتتحوّل الرياضيات رويدا رويدا، بفضل ذلك، إلى “ملِكة العلوم” التي انجبت لاحقا وليّة العهد: علوم الكمبيوتر، الذي يشكّل علم الخوارزميات قلبها النابض.

 

أما المفاجأة الثانية التي ستصدم الخوارزمي لو بُعث من جديد، فهي ما آلت إليه لغته العربية في المجال العلمي خصوصا، هي التي كانت لغة العلم الدولية في عصره!

 

فهذه اللغة العملاقة لم تعد تستخدم لكتابة العلم اليوم: يُدرّسُ العلم في عقر جامعات بلدانها العربية باللغات الأجنبية؛ أو منذ المدارس الثانوية والإعدادية، في أحيان كثيرة أيضاً. إذ تفتقر لغة الخوارزمي اليوم لِمرادفٍ لكل جديدٍ في القاموس العلمي، وذلك منذ دهر. ويعلم الله أن هذا الجديد يهطل بغزارة من كل حدب وصوب هذه الأيام، لا سيما في علوم التكنولوجيا الحديثة.

تفتقر لغة الضاد أيضا إلى صيغٍ تعبيرية موحّدة مرادفة لبعض الصيغ التقليدية المستخدمة في السياقات العلمية…

 

ثم ليست الكلمات العلميّة وحدها فقط ما تنقص العربية في الحقيقة، لكن عدد هائل من كلمات الحياة اليومية لم تدخل العربية حتى اليوم. أسماء كثير من الحيوانات والعصافير، والأدوات العملية، لا توجد في لغة الضاد، على سبيل المثال.

 

يكفي رؤية ضحالة تواجد العربية في ترجمات صفحات موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت، لا سيما الصفحات العلمية، لإدراك حجم الكارثة؛ دون الحديث عن أنيميا صناعة “المووكات” بالعربية، بل انعدامها المطلق.

 

الجميع مع ذلك (لاسيّما كبار الأغنياء والحكّام والمموِّلين، المتدينين وغير المتدينين) يُعبّر عن عشقة للغة الضاد، ويمدح لغة القرآن، لكنه يرسل مع ذلك أبناءه، بكل ارتياح، لتعلم المواد العلمية الجوهرية بلغةٍ أجنبية!

 

لا أستطيع التعبير عن حجم الصدمة التي ستهزّ مولانا الخوارزمي وهو يرى الواقع المزري للغته الحبيبة!

ومع ذلك، يكفي البدء ببناء “بوابات” على الإنترنت، مفتوحة للعالَم، تضمّ فصولاً لدروس مكتملة أساسية نموذجية، في كل فروع العلوم الأساسية، بدءاً بعلوم التكنولوجيا الحديثة حيث تغيب العربية كلّا تقريبا.

 

لكل اللغات الكبرى، وغير الكبرى أحيانا، تجاربها الطويلة المهمة في بناء هذه البوابات بلغاتها الوطنية، يمكن الاستلهام منها كثيرا.

في كل ثقافة ونظام تعليم حديث، تعتبر هذه البوابات طوبات المعرفة التي ينهل منها الطلاب ويستقي منها المدرسون، ويبنون منها جميعا محاضراتهم ومعارفهم.

 

يحتاج بناء بوابات عربية مشابهة إلى مشروعٍ قوميّ عربي، تُعطَى له الأولية، ويتم تنفيذه على مراحل.

بعد تحديد فصول البوابات التي يلزم إعدادها في ضوء أولوياتِ مدى الحاجة الماسّة، يتم فتح عروضٍ لكتابة كل فصل، ينتهي باختيار ثلاثة أساتذة مثلا من أقدر مستخدمي العربية والمتخصصين في مجال ذلك الفصل، من مختلف أنحاء العالم (لا سيما الدول العربية)، يساعدهم جميعا، إذا لزمت الحاجة، بضعة مستشارين لغويين لادخال مصطلحات أو كلمات عربية جديدة، ستصبح بفضل هذه البوابات المرجعَ والمعيارَ لكل من يريد استخدامها بعد ذلك. فابتكار كلمات جديدة مثل: رقمنة numérisation، واسترقام dématérialisation، تحتاج أحيانا لتخصص لغوي.

 

كما يلزم أن يستند إعداد هذه الفصول على مبادئ ومعايير دولية راقية، لصنع محتوى وشكل مواد بوابات هذه المواد العلمية على الإنترنت، مستفيدا من تجارب اللغات الأخرى، ومن تقنيات إعدادها تكنولوجيا بهذه اللغات، ونشرها واستخدامها على الإنترنت لطلاب العالم.

 

إنجاز مشروع كهذا قد يدوم أقل من 10 سنين، إذا أعتبِر هدفا قوميا ملحاً، بل أكثر: أب الأهداف العاجلة، الضرورية لإيقاظ عملاق اللغة العربية النائم منذ دهر، وتدشين حضوره في التعليم والبحث العلمي الحديثين.