البطريق العملاق الأخير: خرائب النوع البشري

حبيب سروري

“النوع البشري خطأ ارتكبتهُ الطبيعة، حان وقت إلغائه من الوجود، وانتهاء هذه المسرحية الهزلية!”؛

قالها بنبراتِ ممثلٍ مسرحي، أو مجنونٍ ربما، رجلٌ يعبر رصيف محطة مترو، ذهابا وإيابا، بهيئة غريبة يحدق فيها الجميع، دون الإصغاء لما يقوله.

 

لم يثرني منظره، بقدر عبارته الخطيرة: كل مشاريع الإبادة البشرية لم تطمح بإلغاء نوعنا البشري من الوجود، عن بكرة أبيه، كهذه العبارة.

 

كان يحكّ فمي هذا الرد الساخر:

“ما عجلك بفنائنا؟ مازلنا في بداية الطريق. نوعنا البيولوجي، هومو سابيانس، مازال بعمر الرضيع!”؛ مُنطلقا من كون متوسط عمر النوع البيولوجي حوالي 5 مليون سنة، ونوعنا عمره فقط 200 ألف سنة، سبقته سلسلة سلالات أنواع إنسانية أولية، منذ حوالي 6 مليون سنة فقط.

 

عبرَتْ رأسي صورٌ تحاول استيعاب ما يقوله. صور خرائب نوعنا الإنساني وتدميره الذاتي المعاصر.

صور طازجة لهياكل عظمية من النساء الجائعات في تهامة باليمن، ملأت الصفحة الأولى من مجلة تايمز مؤخراً…

اجتاحت رأسي كل الصور التراجيدية لضحايا سوريا، للأطفال تحت الأنقاض، وعلى الشواطئ، لأشلائهم مع حقائبهم المدرسية تحت قصف الطيران الروسي في حلب، لعشرات آلاف الغرقى من المهاجرين…

ليس ذلك ما جرّ معتوه المترو لترديد عباراته التدميرية الشاملة، بالتأكيد. ماذا إذن؟

 

أهو الواقع الدولي لهذا العالَم الذي يشبه جسدا ساقطا في الخواء، يهرول تحت قوة الجاذبية، نحو قاعٍ ينتطره فيه ارتطام عنيف؟

فدِيون الدول لا تتوقف عن الزيادة، تُشترى أحيانا بديون جديدة. والجيل الحالي من شباب الغرب هو أول جيل يعتبر أن سلفه كان يحيى أفضل منه، فيما كل الأجيال السابقة كانت ترى أنها تحيى أفضل من أسلافها.

إذ وُلد هذا الجيل الشبابي الحالي وترعرع على سماع كلمات: أزمة مالية، ديون، بطالة، انخفاض مستوى المعيشة… ومع ذلك لا تتوقف أرباح الأغنياء من الازدياد في الوقت نفسه!

 

أم هو واقع كوكبنا المريض بسبب التغيرات المناخية التي خلقها النشاط الإنساني واستهلاكه المفرط للطاقة، وتلويثه المناخ، وتقليصه من الغابات لتوسيع المدن؟

فانقراض الأنواع اليوم مرتبط بالنشاط الإنساني وجشعه وعدم اكتراثه بمصير الكوكب في المستقبل: 20000 هكتار تُنتزع يوميا من المنظومة البيئية، لمعمار وحاجات الإنسان؛ و100مليون طن من غازات الاحتباس الحراري تنفث يوميا لِتغلف فضاء الأرض كحاجز زجاجي.

من نتائجها: إرتفاع حرارة الأرض، وخلل منظومتها البيئية: ذوبان الجليد، طفح البحار، تسوناميات اليوم…

 

رغم كل هذه الصور السوداوية التي تجعل الولدان شيبا، لم أر مبررا للعبارة الخطيرة التي كان يرددها مجنون المترو.

إنتهاء النوع البشري من الوجود؟ يا للهول!

وفي أي متحفٍ سيتم وضع عينات بشرية لِنوعنا الإنساني البائد؟ من سيشاهد أنقاضَنا إذن، ومن سيدير ذلك المتحف؟…

 

عاد إلى ذهني مومياء بِطريقٍ عملاق، شاهدته في متحف، لنوعٍ بيولوجي أختفى من المعمورة ذات يومٍ تراجيدي كئيب: 3 يونيو 1844.

كان هذا النوع بحجم وزّة كبيرة، له منقار طويل أسود، وأقدامٌ بِعوّامات. له ريش صغير معطوف نحو الظهر، لا يستطيع الطيران به. يستخدمه للعوم الماهر الاستثنائي، والغوص عميقا في البحار التي يغادرها لوضع بيضِه على اليابسة. ريشهُ ثمين في أسواق تجارات الإنسان.

 

حتّى ذلك اليوم الحزين، كان هذا الطائر منتشراً من مضيق جبل طارق حتى إيسلندا والنرويج، وأبواب أمريكا الشمالية.

تحدث عنه بحارة القرون الماضية كثيرا. كان منه أكثر من 10000 نفر في “جزيرة الطيور” مثلا، على إبواب كندا، عندما كانت مشحونة بالطيور آنذاك.

 

كان اصطياده سهلا جدا. فهو لا يستطيع الطيران (بعكس بِطريق اليوم، الصغير حجما)، ولا يجري أسرع من الإنسان. يفتح الصيادون أحضانهم له، يخنقونه، ينتزعون ريشه، ويتركون جثته تموت ببطء على الشاطئ.

 

اختفى هكذا رويدا رويدا من الأرض، قبل أن تظل منه أعداد قليلة في جزيرة إيلدي قرب إيسلندا، كان آخرهم ثنائيٌّ خرج من البحر لوضع بيضته في الشاطئ، عندما أرسى قربه البحار هاكونارسون وفريقه سفينتهم التي جاءت من إيسلندا، في ذلك اليوم الكئيب، للبحث عن ريش البطريق، لبيعه لتاجر بعثهم خصيصا لذلك.

 

عراك صغير بين الطائرين مع هاكونارسون ورفيقه، انتهى بخنق البطريقين بسهولة، وبكسر البيضة وسط المعمعة، وبانتهاء نوع بيولوجي تطوّر خلال ملايين السنين، من كوكبنا وإلى الأبد!

كل ما تبقّى منه اليوم حوالي مائة مومياء في بعض متاحف العالَم، وقفتُ أمام إحداها وأنا أرتجف بخشوعٍ وحسرات.

 

فناء الأنواع البيولوجية صار اليوم من صنع الإنسان، فيما كان سابقاً من هندسة كوارث الطبيعة.

من ينسى آخرها؟ الكارثة الخامسة الكبرى في تاريخ كوكبنا، عندما سقط كويكب عليه قبل 65 مليون سنة، آثاره محفورة في أعماق البحر، قرب المكسيك. ارتفعت إثرها درجة حرارة أرضنا وضجت بالزلازل والبراكين، التي أطاحت جميعها بمعظم الكائنات الحيّة.

لم يكن الإنسان بعد من سكان هذا الكوكب. كان له سليل بعيد ضعيف صغير، يختفي في علياء الأشجار، استطاع مثل غيره أن يحتمل ارتفاع درجة حرارة الأرض وتغيراتها المناخية.

 

تطور هذا الكائن الضعيف خلال عشرات ملايين السنين بعد ذلك، في ضوء التغيرات الطبيعية المتعاقبة، قبل أن تبدأ سلالات الأنواع الإنسانية، التي قادت، قبل 200 ألف سنة فقط، إلى نوعنا الحالي: هومو سابيانس، من فصيلة: هومو التي تضمّ أنواعا بيولوجية أخرى كان لها مثلنا نفس الأجداد.

 

عدد الأنواع البيولوجية اليوم 8.7 مليون، منها 2.2 مليون تعيش في البحار.

50٪ من عدد طيور الأرض اختفت منذ 40 عاماً. نسبة لا تقل عنها من الحيوانات المتوحشة انقرضت أيضاً. بعض هذا النقصان يؤدي إلى فناء أنواع كاملة.

89٪ من طيور السنونو اختفت مثلا في فرنسا. ألاحظ ذلك شخصيا، من مسكني: قبيل الفجر، في السنوات الماضية، كنت أصحو على سيمفونية طيور سنونو تملأ السماء.

ومنذ سنين، لا أصحو إلا على سماء قفراء إلا من ثنائي يعبرها أحيانا، بشرود وقلق!

 

أكثر من 20000 نوعٍ بيولوجي مهدد اليوم بالانقراض. أشعر بحسرات حقيقية على كل نوع ينقرض. لوحة فنية صنعتْها الطبيعة خلال ملايين السنين تتحول فجأة إلى رماد وعدم.

ناهيك عن أن علاقة قرابة حميمة تجمعنا معها، منذ الأزل: لنا منبع بيولوجي مشترك قبل 3 مليار ونصف مليار سنة: الخلية الحية لوكا:

LUCA (Last Universal Common Ancester).

 

ختاماً: ما إن أنهيت مقالي هذا حتى ظهرتْ، في 27 أكتوبر 2016، نتائج دراسة دولية ينتظرها الجميع، عن واقع التنوع البيولوجي اليوم، لخصها اليوم التالي عنوان الصفحة الأولى من جريدة اللوموند الفرنسية، الذي يشبه اللكمة القاضية:

“58٪ من فصيلة الفقاريات اختفت خلال الأربعين السنة الماضية!”

كل ذلك قبيل أيام من افتتاح مؤتمر COP22 في مراكش، لتخفيض حرارة الأرض، عبر برنامج دولي لِتقليص انتاج غازات الاحتباس الحراري في مجموع دول العالم: أم المعارك.

أمّ المعارك التي لا يعترف بها الرئيس المنتخب الأمريكي الجديد، ويعتبرها (أربطوا احزمتكم جيدا!): مؤامرة صينية لإفقار أمريكا!