نحن، ومستقبل الذكاء الاصطناعي

حبيب سروري

 

ما الذكاء الاصطناعي، أوّلاً؟

هو مشروع محاكاة برامج الكمبيوتر للذكاء الإنساني، بل التفوق عليه أحيانا، في كل المجالات:

تهزمه في الشطرنج، وفي لعبة “الغو” الأكثر تعقيدا بكثير؛ تقوم روبوتاتها بمهنة الجرّاحين والأطباء والممرضين؛ تكتسب خبرات المحامين والقضاة والمحاضرين الجامعين وغيرها من المهن المهددة بالانقراض مستقبلا بعد أن تحلّ هذه البرامج محلها؛ تقود السيارة بدون سائق، ليس فقط لتفادي الأخطاء البشرية أثناء القيادة، لكن للتواصل اللاسلكي والتنسيق مع غيرها من شبكة السيارات، لامتصاص الزحمة وتحسين حركة المرور وتفادي تلويث الجو؛ تتعرّف لوحدها على كل مكونات الصور على الإنترنت، لتستطيع مثلا تحديد كل شخص داخل صورة مسيرة جماهيرية؛ تستوعب مدلول النصوص المكتوبة، وتستطيع الإجابة على الأسئلة حولها والاستفادة من معارفها؛ توجِّه روبوتات التدمير العسكري الشامل لحروب المستقبل…

 

استخدِم مصطلحُ “الذكاء الاصطناعي” لأول مرّة في اجتماع شهير لعلماء الكمبيوتر في عام   1956، في أهم معهد أبحاث دولي في التكنولوجيا: MIT، وإن راودت الفكرة قبل ذلك العبقري آلان تورينج، مخترع فكرة الحاسوب (ماكينة تورينج النظرية)، ومصمِّم ومهندس أوّل كمبيوتر، استطاع بفضله فكّ شفرة برقيات جيش هتلر، مما أدّى إلى هزيمة النازية قبل موعدها الافتراضي ببضعة سنين.

 

لم يتطوّر علم الذكاء الاصطناعي بشكل استعراضي إلا في العقود الأخيرة. ثمّة منعطفان مرموقان في سيرة حياته: هزيمة بطل العالم في الشطرنج كازباروف من برنامج ديب بلو في عام 1996، وإن كان الذكاء الاصطناعي في ذلك البرنامج محدودا، بالمقارنة بذكاء المنعطف الثاني، الأشد أهمية: هزيمة بطل العالم لي سيدول في لعبة الغو في مارس 2016، من قبِل برنامج شركة غوغل: ألفاغو.

 

تتعانق في هذا البرنامج العبقري تقنيات ذكاء خالص متنوعة، أهمها: “شبكة العصبونات الاصطناعية” التي تحاكي، عبر تقنيات “التعلم العميق”، عمل عصبونات الدماغ البشري، بغية دراسة خريطة اشتباك القطع في ساحة لعبة الغو والتعرّف على مورفولوجيا وبنية أوضاعها، لاستنتاج النقلة الأفضل للردّ على الخصم بطريقة منطقية أو تحليلية أو رياضية، أو بالاستلهام من عِبَر ملايين المباريات التي لعبها ألفاغو ضد نفسه وهو يحضِّرُ للبطولة خلال أشهر، أو من نتائج مباريات كبار أبطال الغو المشحونة في ذاكرته…

 

المثير هنا: برنامج ألفاغو الذي يستطيع الانتشار أفضل من الإنسان في ساحة لعبة الغو المعقدة، والسيطرة على أوسع وأكثر عدد من بقعات مربعات الساحة، يمكنه هو نفسه أن يُكيَّفَ مستقبلا للسيطرة على ساحة المعارك العسكرية الحقيقية ضد جيش عدو، أو على الأسواق المالية!

 

لعلّ هذا الانتصار بالذات قد فتح صفحة جديدة من تاريخ الذكاء الاصطناعي. فبعده مباشرة نظّم البيت الأبيض الأمريكي ندوات ومعامل نقاشات جامعية وشعبية تمحورت حول الذكاء الاصطناعي ومستقبله، قبل أن يخرج في منتصف أكتوبر 2016 بوثيقة خطيرة وكبيرة، عنوانها “تجهيز مستقبل الذكاء الاصطناعي”، قُدِّمتْ كآخر إنجاز باسم باراك أوباما، قبل تركه البيت الأبيض. (فيما انجازاته الخارجية باهتة فاشلة، لاسيما تركه لتراجيديا ذبح الشعب السوري، من مجرمي الداخل والخارج، تتفاقم دون حل).

 

جرت العادة في الحقيقة بأن يُتركَ لكل رئيس راحل الحق في وضع بصماته على مأثر كبير يخلِّد اسمه في كتاب الأبدية. ففي فرنسا مثلا، لميتران أربع عمارات حديثة عملاقة، كل واحدة من عشرات طوابق، لا حد لثرائها المعرفي: المكتبة الوطنية فرانسوا ميتران.

 

يختلف الحال مع أوباما الذي وُلدت أو تطوّرت في عصره كلّ عمالقة التكنولوجيا الحديثة، لاسيّما غافا (غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون) وأخواتها: تويتر، واتساب، أوبير…

أوباما “جيك” (مدمن كمبيوتر) بحق، وواسع المعرفة بعلومه أيضاً، كما كشفه حواره مع رئيس مختبر MIT، جوي إيتو، الذي أجريَ في يوم ظهور وثيقة البيت الأبيض، كما نقلته المجلة التكنولوجية الراقية: Wired.

80 مليار دولار ستخصص لتنفيذ الوثيقة بتوصياتها العشرين، خلال 10 سنوات من الآن، سيتغير خلالها وجه العالم.

مثال صغير لميادين عمل الوثيقة قريبا: لم يعد يجهل أحد أن السيارات بدون سائق جاهزة اليوم، بل تستخدم أحيانا، بانتظار تشريعِ دخولها للطرق السريعة، وتعميمها قريبا.

غير أن الجدل الشعبي المفتوح حولها، يفتح أسئلة تشريعية وبرمجية مدهشة، لم تُحل بعد:

ما العمل عندما تدخل فجأة، على خط سيارة بدون سائق، أمرأةٌ حبلى أخطأت السير، أو مجموعة بشريّة ينتظرها الهلاك للسبب نفسه؟

هل تضحي السيارة بهؤلاء، أو تستدير سريعا 90 درجة، لتصطدم بجدار، وتضحي براكب السيارة فقط؟

 

المفارقة الممتعة: كشفَ الجدل الشعبي إعجاباً بفكرة التضحية بأقل عدد من الناس، أي براكب السيارة فقط في هذه الحالة.

لكن الاستفتاءات خلال الأشهر الماضية أجْلتْ أنه لا يوجد إنسان مستعد لشراء سيارة قد تقرِّر أن تُضحّي به شخصيا!

كل تعقيد الطبيعة الإنسانية تنطوي في هذه المفارقة!

 

ونحن، العرب، في كل ذلك؟

جليّ أن العقل العربي حاليا غير قادر على مجرد تصوّر هذا المشروع أو استشرافه، أو المساهمة به، من قريب أو بعيد.

لماذا؟

كي يعيش الإنسان هذه الأحلام الإلكترونية، وكي يرغب في تحويل الخيال العلمي إلى واقع، يلزمه أوّلاً أن يكون ابن الحداثة؛ وأن ينظر إلى الأمام، وقد عمل قطيعة جذرية مع الماضي (وإن لهذه القطيعة المتطرفة مع الماضي أحيانا مخاطرها الكثيرة الخاصة).

 

“وادي السيلكون” في كالفورنيا (معمل هذه الأحلام الإلكترونية الرئيس): “جنّة زنوات”، حسب تعبير الفيلسوف الألماني الكبير بيتر سلوتيريجيك!

أي، كما قال: “مجمّع شباب بلا أجداد، يدّعون أن التاريخ يبدأ عند دخولهم فيه. شأنهم شأن ما حصل في أوربا في القرن الخامس عشر، عند اختيار تسمية عصر Renaissance، “الولادة من جديد” حسب الاسم الحرفي الغربي (أي: عصر النهضة)، الذي يظل رمزه ليناردو دافينشي، الابن غير الشرعي لمحامٍ إيطالي، وعبدَةٍ عربية!”

 

أحد رموز هؤلاء “الزنوات” الجدد: لاري باج، رئيس شركة غوغل.

“آخر شيء سنقبله، هو باقة بيروقراطيين يؤخرون من انقضاضنا على وحيد القرن”، كما يقول أوباما، بلسان لاري باج الذي يريد كغيره أن تكون شركات “وادي السيلكون” مركز انطلاق مستقبل الذكاء الاصطناعي، في حين يريد إيتو أن يكون معهده هو المركز…

وفي حين أننا، نحن العرب، ما زلنا في أنفاق القطب الماضوي المعاكس، الذي لم يندمج بعد مع عقلية الحرية والتعليم الحديث، وقطع العلاقة بمسلمات العصور الوسطى، لينتميَ لعقلية الحداثة، مهندسة هذه المشاريع المدهشة… وإن كان ثمّة ما هو أكثر إدهاشاً:

قبل قراءة حوار أوباما وإيتو بدقائق، لمحت في غلاف صحيفة “الثورة” اليمنية، عبارة لعبد الملك الحوثي: “حربنا الراهنة امتداد لحرب الحسين”!

 

بين هذا الغرق المجنون في مستنقعات الماضي، وبين تحليق وتوغل الذكاء الاصطناعي المغامر في سماوات المستقبل، يبتعد عالمنا العربي عن العصر الحديث وهمومه وتطلعاته، بسرعة قصوى باتجاه الحضيض.