هل أخلاقنا سامية فعلاً؟

حبيب سروري

 

للاحتكاك بالناس، وسبر أغوار آرائهم، كان من اللازم قديما التسكّع في المقاهي وأركان الشوارع، والتلصص على همز ولمز ركاب الباصات، والتغلغل في المنتديات الشعبية المغلقة.

في عصر الشبكات الاجتماعية على الإنترنت، يمكن استشفاف صورة سكانير دقيقة لآراء العامة، من داخل برج عاجي أرستقراطي: يكفي لذلك الإبحار في تعليقات “المفسبكين” ومنشوراتهم مثلا، والمتابعة لجدلهم، والإصغاء لآهاتهم الحميمة.

 

في خوض هذه التجارب “التلصصية” مادة لا حدّ لثرائها لمن مشروعه التنويري: خلخلة المسلمات الثقافية الشعبية التي تكرِّس استمرار تأخرنا الحضاري العربي.

 

أحد هذه المسلمات، التي يشترك في الإيمان بها مثقفون كبار، وأميّون معا: سموّ أخلاق الإنسان عندما يلتزم بالقيم الدينية، على غيره من البشر!

 

قد يكون مقبولاً أن بعض القيم الأخلاقية التي جاءت بها الأديان والمعتقدات الروحية الإنسانية كانت أرقى من القيم الشعبية السائدة قبل مجيء تلك الأديان. إلا أن مئات أو آلاف السنين قد مرّت على ولادة تلك القيم الأخلاقية الدينية العتيقة، لتتجاوزها اليوم قيم حضارة “ميثاق حقوق الإنسان”.

 

ألغت الأخلاق المدنية الحديثة لهذه الحضارة، على سبيل المثال، ممارسة العبودية (التي سمحت بممارستها جميع الأديان)، ونصّ ميثاق هذه الحضارة، الصادر في 10 ديسمبر 1948 والتي تبدأ أول عبارة فيه ب: “يولد الناس أحراراً ومتساويين”، على تساوي الجميع دون تفضيل المنتمي إلى هذا النسب أو اللون أو الدين أو الإلحاد على غيره.

 

ثم من السهولة جدا اليوم كتابة “نظام داخلي”، من نصف صفحة فقط، يحوي أنبل وأسمى قائمة لِمكارم الأخلاق الإنسانية، في أرقى حللها، يبدأ أوّل سطرٍ فيه باعتناق تعاليم “ميثاق حقوق الإنسان”، وثاني سطرٍ فيه باحترام قوانين مرور وقيادة السيارات والدراجات في الطرقات والشوارع!

 

رقي هذه التعاليم الأخلاقية أو تلك، مرتبطٌ، قبل هذا وذاك، برقي المبدأ الجوهري الذي تتأسس عليه تلك التعاليم:

معظم التعاليم الأخلاقية الدينية مؤسسة، في الحقيقة، على مبدأ نفعي: إذا مارستَ تعاليمها فأجرك عدد من الحسنات، وإن لم تمارسها فعليك سيئاتٌ يمكنك محوها ب”الاعتراف” أمام قسيس، أو بممارسة طقوس دينية كالأضحيات أو الحج.

طبيعي ذلك، لأنها تنتمي لنموذج وعصر شراء وبيع العبيد، وأسميت لذلك ب” أخلاق العبيد”.

 

ثمّة مبدأ آخر ينصُّ على أن “الأخلاق الفاضلة غاية بحدّ ذاتها”، لا تمارس لأجل ثواب، أو خوفاً من عقاب. تمارسُ لِجمالها بحدّ ذاته، دون بحثٍ عن أجر ما في “دكان الحسنات والسيئات”، كما يقول أبو العلاء المعرّي:

توَخَّيْ جميلاً، وافعليهِ لِحُسنِهِ                 ولا تحكمي إنّ المليكَ به يجزي

ألا يلزم أن يكون هذا البيت حليب التربية الأخلاقية للمواطن الحديث؟

أو كما يقول حكيم المعرّة أيضاً:

فلتفعلِ النفسُ الجميلَ لأنهُ                     خيرٌ وأحسنُ، لا لأجلِ ثوابِها!

ألا يلزم أن يكون هذا البيت أيضاً منار السلوك اليوميّ للإنسان الحديث؟…

 

الشعوب الحديثة التي يتغلغل في ثقافتها العميقة مبدأ “الفضيلة غاية بحدّ ذاتها”، كالشعب الياباني، تضرب أرقاما نموذجية في السلوك الأمين وقلّة الفساد واختفاء السرقة. الشهادات والدلائل لمن عاش هناك تفقأ العين، إذا ما قورنت بسلوك شعوب أخلاق دكان الحسنات والسيئات.

 

عند التغلغل في الآراء والتعليقات الشعبية في الشبكات الاجتماعية، حول مقولة “سمو سلوكنا الأخلاقي بالمقارنة بالآخر”، نجد أن بعضها بالغة في سطحيتها وسذاجتها وتفاهتها معاً.

يقول بعضها: بفضل الدين، نحن لا نمارس “زنا المحارم”، مثل بعض الشعوب الأخرى!

 

جليّ أننا لا نختلف عن غيرنا من الشعوب، أو الحيوانات أيضاً، في تجنب ممارسة هذا السلوك المشين ورفضه؛ عدا حالات مرضية نادرة هنا وهناك معا.

إذ لا يحتاج الإنسان أو الحيوان لتربية التعاليم الدينية لهذه الغاية، لأن نبذه صار متوارثا ومطبوعا بيولوجيا اليوم في جينات الإنسان، أو الحيوان عموماً، وذلك بعد ملايين السنين من التطور والانتقاء الذي يصطفي المواليد ذي الثراء الجيني الآتية من أبوين متباعدين جينيا، عن الآتية من أبوين من نفس الأسرة؛ ناهيك عن الخرائب النفسية التي لا حدّ لها لأطفال زنا المحارم.

 

ثمّ لعلنا ضمن شعوب قليلة ما زالت تمارس عادات زواج أبناء وبنات الأعمام والأخوال، التي تجاوزتها ثقافات حديثة أخرى عديدة، كونها في الجوهر سببا لإنجاب أجيال ضعيفة بيولوجيا، أو لاعتبارها أحيانا نمطا ذا صلةٍ ما بدوائر علاقات المحارم!