رشدي بين ابن رشد وشهرزاد

حبيب سروري

 

لعل رواية سلمان رشدي الأخيرة: “سنتان، ثمانية أشهر، وثمانية وعشرون ليلة” (أي: ألف ليلة وليلة، لمن يجيد الجمع!) تبرهن بشكل أكثر سطوعاً عبارة المفكر السوري الكبير صادق جلال العظم، في كتابه “ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب”، 1994:

“الواقع هو أن أدب سلمان رشدي (بما فيه روايته الأخيرة: “الآيات الشيطانية”) ينتصر للشرق، ولكن ليس لأي شرق بالمطلق، بل للشرق الذي يجهد لتحرير نفسه من جهله وأساطيره وخرافاته وبؤسه وديكتاتوريته العسكرية وحروبه الطائفية والمذهبية وهامشيته الكاملة في الحياة المعاصرة.

أي لذلك الشرق الذي يعمل على وعي حقيقة ظروفه وأوضاعه نقديا، وتشخيص أسباب تخلفه وتقاعسه موضوعيا، وعلى تجاوز “عاره” الراهن مستقبليا. ودعنا لا ننس أن نجيب محفوظ يحمل الرسالة ذاتها إلى هذا الشرق الذي نحن منه طبعاً”.

 

روايته الجديدة تقع في صلب هذا التأطير، لأن محورها الجوهري الرئيس: الحرب الروحية بين علَمين كبيرين: الإمام الفقيه الغزالي، صاحب كتاب “تهافت الفلاسفة”، والفيلسوف الطبيب والمترجم القاضي ابن رشد (القرن 12) الذي ردّ على الأول، بعد حوالي قرن من كتابه، بكتاب: “تهافت التهافت”.

كفّر الأول الفلاسفة في بضعة مسائل، ورفض مبدأ السببية الفلسفي، شديد الجوهرية في العِلم والفكر عموما، معتبراً أنه يلغي مفهوم “الإرادة الإلهية”.

 

لعلّ هذا الجدل الراقي بين قامتين هائلتين في الحضارة العربية (الذي كم تقاعسنا عن دراسته وخوضه ومواصلته، منذ هزيمة ابن رشد وإحراق كتبه، وسيادة فكر الغزالي في حياتنا حتى اليوم!) يمحور كل الصراع الروحي للإنسانية جمعاء، في القرون اللاحقة من تاريخ البشرية، بين التنوير والظلمات، والتي انتصرت فيه غالبا أمم الدنيا (خارج منطقتنا العربية) لابن رشد على الغزالي.

 

ينطلق صاحب رواية “أطفال منتصف الليل” (بوكر 1981، والتي اعتبِرت أفضل 40 رواية بوكر) من ذلك الجدل الفلسفي الجذري، ليشيد على مداميكه عملا روائيا تخييليا عملاقا، تختلط فيه، بمقدرة لا يمتلكها إلا رشدي وحده، أدوات الفانتازيا الشرقية بالغربية: من عوالم ألف ليلة وليلة وميثولوجيا الجن والعفاريت والأساطير الهندية، إلى آخر أدوات روايات الخيال العلمي وتقنيات السينما الفانتازية.

مما حدى بناقد لأن يقول بأن من حسن حظ الرواية المعاصرة، في هذا الزمن الذي ينافس فيه الواقعُ الخيالَ ويتجاوزه، أن هناك رشدي ليقلب المعادلة!

 

دنيا، “حورية السماء”، ابنة الجني شهبال، إمبراطور العالَم السحري “بيريستان” الذي تحيطه جبال قاف الدائرية: إحدى أهم أبطال الرواية. كان أبوها يحلم بابنٍ محارب، فجاءته هذه البنت المفتونة بالفكر والفن والفلسفة. بينهما حب مستحيل، ناقص من جهة الأب، وإن صارت ابنته “أميرة البرق” أيضاً.

دنيا تعشق إنساناً عظيما أُحرِقت كتبه، الفيلسوف ابن رشد، الذي عاد لعمله كطبيب بعد ذلك في قرطبة.

 

ينفتح بين بيرستان وعالمنا الأرضي، بين زمنٍ وآخر فقط، برزخٌ مغلق يفصلهما. في واحد من تلك الأزمنة، تتمثل دنيا لابن رشد في هيئة إنسانة تعمل في منزله، قبل أن تدخل في علاقة غرام معه، وتنجب منه ذريّة “الدنياويين” (أو لنقل: العلمانيين) الذين يتكاثرون من قرن لقرن.

 

ثمّة، على نحوٍ موازٍ، قصص متداخله تقود الإمام الغزالي لتحرير عفريت من قمقمه: زمرد الأكبر، أخطر عفاريت بيريستان، الذي يكره البشر، لاسيما بعد أن ارتبطت حبيبته دنيا بأحدهم: ابن رشد.

من وحي ميثاق “شبيك لبيك، عبدك بين يديك” الشهير، يدين زمرد للغزالي بتحقيق طلبه متى أراد.

 

بعد حوالي ألف سنة من ذلك، أي في هذا القرن، تتسلل روح الغزالي نحو زمرد الأكبر لتعلن له الطلب المؤجل: إرساء الخوف من الله بين البشر، وخوض الحرب لتدمير حضارة العلم والتكنولوجيا.

 

يبدأ اقتحام العفاريت والجن لكرتنا الأرضية، في زمن جديد ينفتح فيه البرزخ الزمكاني الذي يفصل بيريستان عن الأرض. يجثم على كوكبنا زمن خرائب غرائبية لا تعد ولا تحصى، ولا تخطر ببال:

يتسلل الجن إلى أجساد رجال مال البورصة في “وول ستريت” بنيويورك، يحيطون ناطحات السحب بثعابين عملاقة، يحولون بعض سكان المدن إلى حيوانات كوحيد القرن، ويصيبون كثيراً من أحفاد ابن رشد بمرض الاسترفاع: المشي عدة سنتمرات أو أمتار فوق الأرض!…

 

تعود دنيا للأرض حينها لانقاذ أحفادها، وكل البشر معهم. تسقط بغرام أحد أحفاد ابن رشد، المهاجر البُستاني، ذي الأصول الهندية: جيرمينو، الذي يشبه ابن رشد كثيرا، وتقود معه ومع آخرين من أحفاد ابن رشد حربا مضادة لحرب العفاريت تدوم ألف ليلة وليلة. “1001 ليلة من العبقرية الروائية”!

 

إن كان ثمّة مأخذ على هذه الرواية العملاقة، فلعله: شيطنة الإمام الغزالي ولعبه دور جذر الشر، ولو روائيا. ربما كان ذلك أكثر مما يستحقه ذلك الإمام الصوفي الذي له، عدا بعض الفصول الظلامية والتكفيرية في كتابهِ “تهافت الفلاسفة”، صفات جذابة وعطاءات فكرية تستحق الاحترام.

 

ثمّ هناك مأخذ قد يراود بعض الذائقات من قراء الرواية، غير المتعوّدين على فن رشدي، لا محالة منه عند قراءة عمل فني يفتح مدرسة فنيّة جديدة، كمدرسة “الواقعية السحريّة” الرشديّة التي تحتدم وتصل ذروتها في هذه الرواية.

فلعلّ فصول زمن الخرائب الغرائبية مثلا، الذي تتزاوج أثناءه، بشكل متكافئ جدا، يوميات عالمنا المعاصر في أرقى مدن الحضارة الغربية، خلال بداية هذا القرن من الألفية الثالثة، مع عوالم الجن والعفاريت والسحر والغرائبيات المستلهم من أقدم الميثولوجيات والفانتازيا الشرقية، يصعب التناغم معه إلى حدٍّ ما، لاسيما عندما يكون بهذا التداخل المتلاطم المتواتر.

إذ لعل عصبونات دماغ القارئ تستدير بطريقة ما عندما يقرأ رواية تخييلٍ مسرحها الواقع الراهن، وبطريقة مختلفة عندما يقرأ روايةً مسرحها العوالم الغرائبية والميثولوجية.

لكن القارئ قد لا يجيد أحيانا القراءة المستقرّة لعملٍ يندغم فيه هاذين المسرحين معا، “فيفتي فيفتي”. فعصبونات الدماغ قد لا تجيد أحيانا التنقل الزجزاجي السريع بين العالَمين.

 

غير أن رشدي يستطيع، كما يبدو لي، منذ الفصول اللاحقة (عند اندلاع الحرب الكبرى بين دنيا ورفاقها، ضد كبار العفاريت وجيشهم) ترويضَ رقص عصبونات دماغ القارئ، وتعليمَها النظر في فضاءٍ يختلط فيه الأمامُ بالخلف، الشرقُ بالغرب، في الآن نفسه.

 

الرواية الجديدة لرشدي تُواصل موضعَته كأحد أكبر الروائيين المعاصرين الذين يملأون الرواية بالسرد القصصي المكثّف، الأشبه هنا بماتريوشكات من القصص المتداخلة، والتي صار يُنعت بفضلها: شهرزاد العصر الحديث.

“الحكي القصصي ماكينة الرواية”، كما قال في حواره مع المخرج المسرحي اللبناني­ الكندي الفرنسي وجدي معوض، في احتفال كبير خاص بالرواية، في مسرح دو كولين بباريس.

“لا أحب الرواية الضخمة، ذات الموتور الصغير”، أضاف!

 

هكذا صار رشدي، بفضل مجموع عطائه الأدبي اليوم، عضواً في أكاديمية الأدب والفن الأمريكية. كرّمته لذلك ملكةُ بريطانيا بدرجة فارس. وكرّمته جامعة نيويورك. وترأس إتحاد الكتاب الدولي (PEN International) فرع أمريكا…

وها هو يسير اليوم حرّاً طليقاً، رغم الفتوى الكهنوتية النتنة للإمام الخميني بقتله، في 1989 بسبب روايته “الآيات الشيطانية” التي أبدع صادق جلال العظم في كتابة “ذهنية التحريم” مناقشةَ تورط أحكام كثير من المثقفين العرب (الذين لم يقرأوا الرواية غالبا!).

كما نجح صادق العظم بتقديم رشدي ك “جيمس جويس العالم الإسلامي”، على غرار “بالزاك العالم العربي”: نجيب محفوظ.

 

سرد العظم مجالات تشابهات كثيرة، في التقنيات وهموم المواضيع الأدبية، تجمع جويس ورشدي.

أحد هذه الهموم: معارضة التدين الظلامي. يتجلّى هذا الهم، أكثر من أي وقت مضى، في روايته الأخيرة.

فلعلّ رشدي أراد عمداً، بشكل أو بآخر، أن يربط بينه في روايته هذه، وبين شخصية ابن رشد، بِصنع شخصية جيرونيمو، سليل ابن رشد، الذي ولد مثل رشدي في بومبي بالهند، والذي يعيش اليوم مثله في القرن الأول من الألفية الجديدة بنيويورك، والذي لعب دورا رئيساً مع حبيبته دنيا، حبيبة ابن رشد قديما، في مقاومة العفاريت في حربهم الظلامية ضد الإنسانية.

 

كذلك حال تقنيات واقعية رشدي الفانتازية السحرية والسينمائية في بناء رواياته، التي تسطع في هذه الرواية أكثر من أي عملٍ مضى.

وضع رشدي كرمزٍ لذلك، في الصفحة الأولى من روايته، صورة لوحة فرانسيسكو جويا الشهيرة (القرن 16): “نوم العقل يُنجب الأشباح”، التي اشتهرت كشعار للعقلانية المحضة.

يبدو في اللوحة رجل نائم على منضدة، تخرج من دماغه أثناء نومه أشباح تشبه الجن والعفاريت.

لكن رشدي ذكَّر في تعليقه على اللوحة بالعبارة المنسية التي ترافقها، والتي يختلف مدلولها قليلا عن عنوان اللوحة، وعن تفسيره العقلاني المحض المتعارف عليه:

“الخيال ينجب الأشباح المستحيلة عندما يجافي العقل، لكن عندما يتحد معه يصبح أب الفنون والروائع!”

من رحم هذا التوحد الخيالي العقلاني ولدت روائع هذه الرواية!