المسيطرون على لاوعينا الرقمي

حبيب سروري

 

صار جليا أننا نحيا اليوم في بحر عجاج، متلاطم الأمواج، من المعلومات. من يجيد الإبحار فيه وتوجيه موجاته يقود العالم!

 

فوصول المعلومة مثلا نحو المستهلِك، عبر قنوات القيل والقال بكلّ أشكالها التقليدية أو الحديثة كشبكات التواصل الاجتماعي، التي تحدّثنا عنها في مقال سابق عن “التلفون العربي”؛ وبواسطة إثارة غرائز الرغبة لدى المستهلك وجعله عضوا فاعلاً في قبيلة عِرقية من المستهلكين، كما استعرضنا في مقال سابق عن “مثلث الرغبة”، هي ما تلهث وسائل الإعلام، والإستراتيجيات التسويقية للشركات الاقتصادية، للسيطرة عليه.

 

من يستقطب اليوم شبكات المتابِعين والمستهلِكين الفاعِلين كهذه، يسيطر على الاقتصاد والعالم. الوسيلة المثلى لذلك: السيطرة على لاوعيهم الرقمي!

يجدو أوّلاً تقديم بعض الأرقام المذهلة، التي تصيب بالدوار والغيبوبة، لاستيعاب ما يبرر رهانات كبار قوى المال والتكنولوجيا اليوم على هذه السيطرة.

 

مثال ساطع: تطبيق أنستاجرام Instagram على الهواتف المحمولة، الذي يسمح بوضع صور شخصية على الإنترنت وتحسينها وإرسالها للأصدقاء، صنعهُ ويديره 12 مهندسا.

لا يبدو عبقريا بحد ذاته. بيد أن كونه يمتلك 30 مليون مشتركا، أسال لعاب شركة الفيسبوك لتشتريه، قبيل أعوام قليلة، بمليار دولار! بعد شرائه ارتفع عدد المشتركين به إلى 40 مليون عضو.

ومع ذلك أنستاجرام ليس أرخبيل جزرٍ سياحية أو أسطولا بحريا أو شبكة مصانع أو قارة من نفط. ليس أكثر من صفحة إنترنت!

لكنه موقع يضم قبيلة من المستخدِمين المدمنين، على غرار قبيلة الفيسبوك والواتساب.

 

المستخدم هنا، بطبيعة الحال، يختلف عن مستهلك زمن ما قبل الإنترنت، الذي كان يكتفي بقراءة الكتب ومشاهدة الصحف المرئية، من موقع غير فاعل. على عكس الثاني تماما، الأول مستهلك منتج فاعل، يضع تعليقاته ومواده الشخصية والإبداعية وصوره أمام مرأى الجميع. يثري بها مجانا مستودعات الشركات الرقمية التي تعرف كيف تستخدمها لمزيدٍ من الثراء.

 

مثال آخر أشدّ سطوعاً: شركة واتساب WhatsApp التي تأسست في 2009 لتحتكر سوق النصيصات الهاتفية (إس إم إس)، ضمّت قبيلتها مليار مستخدم في سنوات قليلة! لهذا السبب، اشترتها شركة فيسبوك في 2014 ب 22 مليار دولار!

أتعرفون ما يعني 22 مليار دولار؟

الإنتاج القومي السنوي لأكثر من نصف دول العالم، الذي يضم كل ثرواتها الطبيعية المباعة، كل منتجاتها الوطنية، وكل عائداتها الاقتصادية من الخارج أيضاً، أقل من هذا الرقم الهائل!

 

في 13 يونيو الماضي، تواصل اندفاع هذه الأرقام ليصل إلى قمّة جديدة: شركة ميكروسوفت تشتري شركة لينكد إن LinkedIn ب 26.2 مليار دولار، أغلى ثمن تم دفعه حتى الآن لمجرد شبكة اجتماعية!

ومع ذلك، لينكد إن موقع على الإنترنت فقط، لشبكة اجتماعية خدمتها الرئيسة البحث عن وظيفة، وربط علاقات مهنية بين شبكات المستخدمين. مجموع أعضائها اليوم حوالي 400 مليون عضو، ربعهم فقط له حضور شهري منتظم!

 

يجدر الإشارة هنا إلى أن الرقمين القياسيين الأولين لهذه الصفقات المجنونة كان العام الماضي، عندما اشترت شركة ديل للكمبيوترات الشخصية ب 76 مليار دولار شركة EMC، والعام السابق عندما اشترت شركة أفاجو منافستها برودكوم ب 37 مليار دولار. لكننا هنا أمام بيع صناعات تكنولوجية ملموسة من لحم ودم، ولسنا أمام بيع مواقع شبكات اجتماعية على الإنترنت لا غير.

 

أهمية هذه الشبكات الاجتماعية تكمن أساساً في مقدرتها على الوصول إلى المرء، والسيطرة الروحية عليه، وتوجيه رغباته وقيادة لاوعيه الرقمي، ومغنطته ليكون أسير الحاجة إليها، يرتبط بها كما يرتبط المرء بمخدِّر.

 

إحدى آلياتها لتحقيق ذلك: خلق علاقة وصل “لحميّة” بين السلعة والمستهلك الحديث، في إطار قبيلة رقمية فاعلة، على غرار قبيلة جمهور شركة آبل.

لذلك، تعمل الدعايات والمواقع الترويجية على جذب المستهلك إلى مختلف فضاءاتها الرقمية أو التجارية، وعلى “مشاركته” منشوراتها وإعلاناتها، وجعلِه يرتبط عضوياً بمنتوجاتها و”أسرة” المعجبين بها.

تتركه، على سبيل المثال لا الحصر، يتمثّل نفسه محل هذا النجم أو ذاك، يعمل “سيلفي” صنعياً افتراضياً معه، يتقمّص حياته في سياق افتراضي، ويمتلك نمط رغباته…

إذ لم يعد مستهلك اليوم مثل مستهلك القرن الماضي: مجرّدَ مستقبِل سلبي، ولكن مساهم مشارك منتج فعّال خلّاق أيضاً!

 

أكثر الأمثلة إثارة للتأمل هنا: الفيديو الأكثر شهرة وشعبية ورواجا في تاريخ الإنترنت: جانجنام ستايل، Gangnam Style.

تفعيل مثلث الرغبة فيه ضرب الرقم القياسي، بشكل مدهش مثير!

هو فيديو لأغنية، تدوم أربعة دقائق، لفنان كوري غير معروف، أطلق على نفسه اسم: بسي.

شاهده ملياران ونصف حتى صيف 2015، بعد سنوات ثلاث من ظهوره، وما زال حتى اليوم في رأس قائمة أكثر ما تناقله الناس على الإنترنت!

من يرى الفيديو لن يجد صعوبة في ملاحظة أنه يخلو تماماً من أي خلقٍ موسيقي أو إبداع سينمائي. كلمات هزيلة، وسذاجة فجّة كلية. يصوِّر حياة ملياردير فقط، ونمط حياته. يُسيل بالتأكيد رغبات ومتعة كثيرين ممن شاهدوه، وتمثلوا انفسهم محله.

سرّ نجاح هذا الفيديو الكوني يكمن في أنه يثير رغبات البعض لِتعديله قليلا، ووضع أنفسهم في الفيديو محلّ الفنان وهو يؤدي “رقصة الحصان” فيه.

ظهرت لذلك على الإنترنت عشرات آلاف “الستايلات” التي تحاكي هذا الفيديو بصيغٍ مسروقة محرّفة محليّة مختلفة، لدرجة أنه لا يمكن أن نجد بلداً عربيا (أو مدينة أحيانا) لم يحرف أحدهم فيه هذا الفيديو ليجعله بلون بلده أو مدينته!

ثمّة على سبيل المثال فقط: مصر ستايل، القاهرة ستايل، صنعاء ستايل…

 

هكذا، وحدهم من يمتلكون طرق الوصول إلى شبكات الناس، وتحويلهم إلى خادمين فاعلين مُسيَّرين، يسيطرون على العالم.

ومن لا يعرف استقطاب شبكات كهذه مصيره الزوال. كما لو كنّا في عصر البقاء فيه للأقدر على التواصل الاجتماعي والسيطرة على اللاوعي الرقمي.

ففي عصر طوفان المعلومات، يمكن أن يختفي ويموت كتاب عبقري أو سلعة نموذجية، لأنه لم يعرف الوصول إلى الناس التي تتجاذبها اليوم ملايين القنوات والسلع والعروض والكتب، وسط محيط من المعلومات لا قاع له ولا قرار.

لكن إذا امتلكتَ ما يشبه شبكة تواصل كتاب “هاري بوتر”، وتأثيرها على اللاوعي لترويج كتابك، فسيغزو العالم قبل خروجه من المطبعة!

 

لذلك، دخل هذه الشركات الحديثة يتجاوز الخيال: عدد الدعايات الترويجية على الفيسبوك أكثر من مليونين يوميا! ولكل كلمة في القاموس ثمنٌ يدفعه لشركة غوغل من يريد الترويجَ لموقعه على الإنترنت، وبروزَه في رأس قائمة نتائج غوغل، عند البحث عن الكلمة التي يشتريها!

 

فقيمة كل كلمة في بورصة غوغل مرتبط بعدد النقرات عليها من قبل سكان الكرة الأرضية.

والمثير هنا أن أغلى كلمة في القاموس هي “مجان”: قيمتها أكثر من 7000 دولار! فيما قيمة كلمة مثل “فرويد”: 3 دولار، “الله”: 10 دولار…

 

السؤال الأهم: كيف يلزم التعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي وحماية اللاوعي الرقمي من الانجراف العبودي لها؟

 

لا أظن أن عدم العضوية في الشبكات الاجتماعية هو الحل. ثمّة منشورات وروابط وآراء لا نجدها إلا في طياتها. وبفضلها نستطيع مجانا امتلاك موطئ قدم في عالم اليوم، والتعريف بكتاباتنا ومقالاتنا وكتبنا بشكل أفضل.

لكن خطورتها تكمن في أنها مثل “الثقب الأسود” في الفضاء الكوسمولوجي: تشفط المرء ليظل مخدَّراً فيها، وتستولي على بياناته ونصوصه لدراساتها الخاصة ومصالحها، ولكل الأغراض الخفية، بما فيها الاستخباراتية.

 

أفضل ما يمكن أن يعمله المرء هو معرفة آليات عمل هذه الشبكات للسيطرة عليه، ووسائلها في تنويمه المغناطيسي، لكي يتجنب أن يتحوّل معها إلى ما يشبه “كلب بافلوف” تنقاد غرائزه وفق هوى الشبكات الاجتماعية، وعلى إيقاع طقوسها اليومية.

ولنا مع ذلك موضوع مقال آخر.