مثلث الرغبة!

حبيب سروري

 

استعارة “التلفون العربي” تطلق على سرعة بث وتفشي الخبر بين الناس، عبر وسائل “من الفم إلى الأذن”، بكل أشكالها وألوانها: دردشات، همز ولمز، غيبة ونميمة، تواصل اجتماعي…

هو وسيلة تواصل أفقيّة بين الناس، تتشعّب وتتفرّع على نحو عنكبوتي، مبنيّ على نموذج “من الواحد إلى الواحد”، peer to peer.

 

قد يظن البعض أن للتلفون العربي بعدٌ اجتماعي فقط. له في الحقيقة بعدٌ اقتصادي أهم، حوّله اليوم إلى أوّل ركائز الاقتصاد الحديث!

هو في الحقيقة أنجع الوسائل لنشر وبيع بضائع الأسواق التجارية. 60٪ من التسويق، حسب مكتب دراسات أمريكي أحصى ذلك في 2014، سببه أن صديقاً أو قريباً أو إنساناً محبوباً اشترى أو أوصى بشراء هذه السلعة أو تلك، أو قال كلاماً طيّباً عنها، أو يحلم بشرائها لا غير.

وصول هذه المعلومة للمستهلك، عبر قنوات “القيل والقال” بكلّ أشكالها التقليدية، أو الحديثة كشبكات التواصل الاجتماعي، هي ما تسعى الإستراتيجيات التسويقية للشركات الاقتصادية لتنظيمه.

 

“الإنسان يرغب دوماً من وحي رغبة الآخر” تقول أطروحة الأنثربولوجي الكبير رونيه جيرار الذي درس هذه الظاهرة الجوهرية في الطبيعة الإنسانية، منذ أوّل كتبه: “أكذوبات رومانسية، وحقائق روائية” (1961) الذي قال عنه كونديرا إنه أفضل كتاب عرفه في فنّ الرواية.

لتحليل طبيعة الرغبة الإنسانية، ينطلق جيرار من دراسة “مثلث الرغبة”: الراغب، موضوع الرغبة، والوسيط الذي يتوق الراغب لمحاكاة رغبته؛ وذلك عبر دراسة وتحليل أعمال روائية هامّة لسيرفانتيس، بروست، دستوفيسكي، ستاندال، فلوبير… وعبر تحليل الأساطير الإنسانية أيضاً.

يكفي، لاستيعاب هذه الظاهرة العميقة في الإنسان، توزيع نسخٍ متطابقة كافية من لعبةٍ ما لعدد من الأطفال، ورؤيتهم يتخاصمون على امتلاك إحداها!

 

منبع الرغبة غالبا، في مثلث جيرار، هو تقليد رغبة الآخر وليس موضوع رغبته. فنظرة إنسانٍ ما (سين) الإعجابية بموضوع ما (صاد)، بإمكانها إثارة رغبات إنسانٍ آخر (نون).

ولأن صاد يمكن أن يتغيّر على الدوام بين سين و نون، فمنبع رغبة المحاكاة لانهائي، ويمكنه أن يقود إلى تصاعد التسويق والأرباح دون انقطاع، أو إلى ظواهر مختلفة كالغيرة والعداء والعنف والتضحية…

 

كذلك حال دَور الدعايات التجارية في حياتنا الإنسانية: لا يمكن إدراكه إلا من وحي نظرية جيرار.

استوعبت الشركات التجارية هذه النظرية أفضل إستيعاب. لذلك هدفها الرئيس خلق نواة مستهلكين، عبر التلفون العربي وغيره من الطرائق، تمدح سلعاتها وتثير رغبة الآخر.

 

كل الوسائل مهمة هنا: البدء بصنع سلعة ذات مزايا تجذب المستهلكين. ذلك لا يكفي بالطبع، لشدّة التنافس وتشابه السلع.

يليه إمطار المستهلك بالدعايات التجارية للفت نظره واستحواذه وتهييج رغباته عبر نشر صور وفيديو ل “نجوم” يحبون ويمدحون السلعة: رؤية زين الدين زيدان مثلا وهو يضع هذا الحذاء، أو ناتالي بورتمان وهي تستخدم هذا العطر، يسيل لعاب المستهلك، وإن لم يجرّب الحذاء أو يشم العطر.

ثم هناك أشكال متنوعة لاستخدام التلفون العربي وفن الإشاعة لأهداف تسويقية محضة، عبر توليع رغبة محاكاة الآخر، في ضوء نظرية مثلث الرغبة: النقر على أيقونة “توصية”، في المواقع التجارية على الإنترنت، أو على أيقونة “إعجاب” بهذه السلعة وضمّها إلى “قائمة الرغبات”، أو وضع روابط إنترنيتية على غرار: “من أشترى هذه السلعة، أشترى أيضاً هذه السلع المكملة”…

 

حلم كل الشركات التجارية، في الحقيقة، خلق قاعدة من المستهلكين المعجبين بسلعها، على نمط جمهور كاميكاز سلع شركة آبل، المعجبين بها على نحوٍ ديني أعمى: ينامون قرب مستودعات بيع أية سلعة جديدة لآبل، ليلة ظهورها، ويهيّجون بذلك رغبات الآخرين لشرائها، حتّى وإن لا يختلف الآيفون الجديد مثلاً، في الجوهر، عن السابق (الذي يلبي كل الحاجات، ويمتلك كل التطبيقات أيضاً) إلا في لونٍ أو شكلٍ جديد لا غير!

 

يعرف المسوّقون أنه لم تعد غالباً هناك حاجات جديدة لم تلبيها سلعهم القديمة، وأن استراتيجياتهم تكمن اليوم في الدق على أوتار خلق رغبات محاكات جديدة لا غير، لموضات جديدة، عبر أوسع استخدامٍ كميٍّ وكيفيٍّ للترغيب والدعاية، يسمح بولادة رغبةٍ جديدة، وتفشيها في المجتمع الاستهلاكي، بفضل آليات تفعيل مثلث الرغبة.

يكفي، على سبيل المثال فقط، مراقبة بعض الشركات الكبرى التي تهيمن على السوق اليوم: فيسبوك، ملك سوق البيانات الشخصية؛ غوغل، سيّد سوق المعلومات؛ إير.بي.إن.بي، فحل سوق كراء الشقق؛ أوبِر، فارس سوق التاكسيات التي تحجزها حيثما كنت، وترى حينها مباشرة، على خارطة تنطبع في شاشة هاتفك المحمول، صورة سائقها وسيّارته وهو يقترب نحوك.

 

مجموع هذه الشركات وشبيهاتها (التي صارت أثرى وأقوى من سلطات دول) لا تمتلك أو تصنع وحدها أية سلعة؛ كل ثرواتها الفرعونية تنبع من كونها همزة وصل لا غير، في اقتصادٍ رقميٍّ جديد: الشقق المؤجّرة والتاكسيات ملك أصحابها وليست ملكا لإيربي.إن.بي أو أوبِر؛ المعلومات والبيانات الشخصية ملك الناس يضعونها للحديث عن أنفسهم، ولإثراء إمبراطورية الفيسبوك في الوقت نفسه… فسائق التاكسي مثلا ليس “موظفا” لدى شركة أوبِر، بل “عميل” لها! هي مجرد جسر بينه والمستهلك، تجني حقوقها من عمله، دون ممارسة واجبات رب العمل تجاهه!

 

ثراء هذه الشركات العملاقة الجديدة يتراكم من مجرد عرض ما يمتلكة هذا لذاك، بفضل براعتها وفطنتها في فن استخدام التلفون العربي على الإنترنت، لخلق شبكة مستهلكين قويّة مخلصة تنشر الدعاية لها، وتحث الآخر على مزيدٍ من التفاعل معها. أي: في فن رقمنة تفاعلات وآراء الناس وتقويماتهم؛ وإعطاء ملخصات وإحصائيات لأمزجتهم حول أي سائق تاكسي أو شقّة سكن أو مطعم مثلاً؛ ونشر تعليقاتهم حول أية خدمة؛ والتلويح بعدد إشارات إعجابهم الفيسبوكي لكل منشور أو صورة أو سلعة…

يعطي كل ذلك لكل خدمة قيمةً ورقما في سوق بورصة الحياة، بإمكانها جذب المستهلكين سريعاً عندما ترتفع قيمة الإعجاب بهذه السلعة أو تلك، أو تكون ذا خمسة نجوم!

 

وصلت ممارسة هذه الرقمنة للتقييمات البشرية، بغية جذب اهتمام المستهلك و”بَوأرته” في سلع فَنارية، حدا متطرفا مرَضيا:

كل برامج التلفاز تخضع اليوم في الغرب لديكتاتورية سلطة شعبية البرنامج، حسب الإحصائيات المباشرة لعدد من يتابعونه (“الأوديمات”)، لا لأهميته وجودته وضرورته.

من هبطت قيمته في سوق “الأوديمات” سقط، ومن ارتفع علت درجته.

ملحقات الصحف تحمل قائمة أسماء الكتب الأكثر بيعاً، والتي تصبح لمجرد هذه المعلومة أكثر فأكثر انتشارا، وإن كانت ضحلةً تافهة.

 

كذلك، يقضي اليوم الطالب والمدرس الجامعي، أو الموظف عموماً، جزءاً من وقته أمام برامج كمبيوترية متخصصة، لإعطاء تقييمات عن السلع، المواد الدراسية، الزميل أو المدرس…

وقريباً، من يدري؟، سيحمل كل إنسان في جبينه، كما لو كان سلعة، “كود بار” (شفرة من خطوط) تحوي، ضمن ما تحوي، إحصائيات تتغيّر يوميا، عن قيمته في سوق التجارة والعمل والحياة!…

 

لا يخلو كل ذلك من الزيف الذي يتفشى بالضرورة مع توسّع الانتشار السريع للقيل والقال الرقمي، ومن مخاطر التعتيم والرقابة والتوجيه.

فاستفحال الخطأ يتعاظم حتماً مع تفشي المعلومة وترديدها بين الناس.

يكفي تذكّر اللعبة الشهيرة المسماة ب “التلفون العربي”: يهامس أحدهم بجملة من حوالي 20 كلمة لجاره، الذي يلزمه ترديدها مهامساً جاره الآخر، وهكذا دواليك…

عند الوصول إلى الأخير، يردّد الجملة جهراً أمام مسمع الجميع، وتقارن بجملة الأول، ليضحك الجميع من وصولها في النهاية محرّفة جداً أو معكوسة تماماً!

 

علاوة على ذلك، رقمنة القيل والقال يمكن أن تقود عمداً إلى التعتيم والإقصاء الناجم عن “التلخيص الإحصائي لاتجاهات اهتمامات الناس ومحاور جدلهم ونقاشاتهم”، كما تفعل يومياً بعض تطبيقات الفيسبوك، الخاصة بأمريكا:

اتهامات الحزب الجمهوري بأن خوارزميات هذه التطبيقات تتناساه عند استخلاصها لتلك الاتجاهات، بهدف إسقاطه في الانتخابات، تكشف ما تحمله الرقمنة للعلاقات الاجتماعية من مخاطر كمينة ممكنة!