عيد العلم البهيج

حبيب سروري

من نافل القول إن العِلم روح المجتمع الحديث، والتكنولوجيا طوطمه، وعلاقة العلم بالأدب فيه يُلخِّصها هذا المبدأ: “العلم يعيد صياغة الواقع، والأدب يُدخِل هذه الصياغة في اللغة، ويلعب دور أيديولوجية العلم”.

 

ما يفصل، في تاريخ المجتمعات المتطوّرة، بين الحداثة وما قبلها، هو نشوء العقليّة العلميّة لدى الإنسان.

في هذا الإطار، تلعب الثقافة والتعليم دور الحارس الساهر على حماية الدور الجوهريّ الرئيس للعلم في حياة المجتمع، من خلال منابرهما اليومية: المدارس والجامعات، المتاحف، المسارح، المهرجانات العلمية والثقافية والفنية…

 

الأمر مختلفٌ تماماً في واقعنا العربي حيث دَور العلم ثانوي جدا، بل غائب غالبا؛ والتعليم والثقافة دينيّان في الأساس، كما كان حال المجتمعات الغربية وعلاقتها بالدين المسيحي في القرون الوسطى.

 

لأضرب أمثلة حيّة عن كيف تضمن الثقافة الحفاظ على الموقع الرئيس للعِلم في حياة الإنسان.

ينعقد “عيد العلم” (في فرنسا، كمثل أشهد من عمقه) في منتصف أكتوبر من كل عام ولمدة أسبوع، تُفتح خلاله أبواب كل المختبرات العلميّة، في الجامعات والمؤسسات الإنتاجية، لزيارتها ومشاهدة التجارب والنتائج العلمية والبرمجيات الكمبيوترية الجديدة… وتُتاح فرصة اللقاء والنقاش المباشر بين الباحثين وبقية الناس فيها، أو في “قرى العلم” التي تتناثر في كل مفاصل المدن.

 

ينطلق الإعداد لهذا الأسبوع الحافل، في بدء كل عام، بتقديم إدارات المحافظات ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الثقافة، لكل الباحثين في كل المختبرات الجامعية عروضا مدعومة ماليا من لدنها (التنافس حولها شديد في اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور)، لإعداد وتنفيذ مشاريع متميزة ضمن نشاطات عيد العلم، هدفها:

1) تقديم المعرفة العلمية على نحوٍ بهيج لجذب الشباب للدراسات العلميّة والتقنيّة؛

2) تحبيب البحث العلمي، وتطوير الملكات في مجالات خبرات الأبحاث في كل محافظة؛

3) السماح لأكبر عددٍ من الناس باستيعاب الدور الجوهري للعلم والتقنية في الحياة الاجتماعية.

 

في هذه المجتمعات، تمرُّ كل سنةٍ أحداثٌ علميّة جسام تملأ الصفحات الأولى في الصحف اليومية والمجلات والتلفزيون، وتتوقف عندها الحياة الثقافية والإعلامية عرضاً وجدلاً وتفسيراً، كما تتوقف عند أحداث زلزالية كتفجيرات 11 سبتمبر 2001 أو غزو العراق… منها على سبيل المثال في الأربعة سنوات الأخيرة:

وصولُ سفينةِ الفضاء كريوزيتي بمعدّاتها وروباتاتها المذهلة إلى المريخ للتأكّد من فرضيّة نشوء الحياة فيه قبل 4.2 مليار سنة، وسفينةٍ أخرى وصلتْ مؤخراً لكويكب بعيد جدّاً بعد رحلة ستة أشهر للتأكد من الفرضية نفسها؛

اكتشافات الثورة الرقمية والإنترنت والذكاء الاصطناعي؛

صورُ الكون وهو فارغٌ من النجوم والمجرات، كما التقطها تيلسكوب بلانك من أشعّةِ ضوءٍ عجوزة انطلقت بين لحظة ولادة الكون: الانفجار الكوني العظيم (البيغ بونغ، قبل 13.7 مليار عام)، ولحظة تشكُّل النجوم والمجرات بعده بمئات آلاف السنين؛

اكتشافُ الجُسيم الأوليّ في الذرّات: “بوزون دو هيجز” الذي كلّف البحث عنه 40 مليار دولار، ونصف قرنٍ من التجارب!؛

استبدالُ القلوب البشرية بأخرى صناعية؛

وصول مسبار “الآفاق الجديدة” إلى كوكب بلوتو بعد رحلةٍ دامت 10 سنوات بسرعة 83000 في الساعة، واكتشاف كوكبٍ شبيهٍ بالأرض على بعد 1400 سنة ضوئية؛

وأخيراً، هزيمة الإنسان في لعبة “الغو” من قبل الكمبيوتر…

 

في هذه المجتمعات التي تتوالى فيها الفعاليات العلميّة السنويّة: عيد العلم، أسبوع الدماغ… والمحاضراتُ العلميّة الدورية لنخبة الباحثين وكبارِ العلماء، المفتوحةُ للجميع في كل المدن، ليس غريباً أن تضع نتائج الاستفتاءات الشعبيّة، في بداية كل عام، الأحداث العلمية الجوهرية في مقدمة أعظم وأهم أحداث العام السابق.

 

لتعميق دور العلم في واقعنا العربي، وتحويل حياتنا، ذات يوم، إلى عيد علم بهيج دائم، يلزم على باحثينا ومنابرنا الثقافية الخوض في هذا السؤال الجذري: كيف نسرّب العلم عبرها، ونفسح له المجال، بطريقة آسرة، لدحرجة مسلّمات ما قبل الحداثة، التي جمّدتنا في “نقطةٍ ثابتةٍ” ثقافية هي أهمّ أسباب التقوقع الحضاري والتدمير الذاتي لمجتمعاتنا اليوم؟

 

ثمّة اتجاهات أربع لتحقيق ذلك، في تقديري.

أوّلها: غرس طرائق التفكير والمعارف الجوهرية التي تصوغ مداميك العقلية العلمية لطالب المجتمعات المتقدِّمة، ويفتقرها طالبنا العربي.

لتقديم مثل صغير لأحد هذه المعارف الجوهرية (التي تحتاج إلى حصرٍ شامل)، يجدر أوّلاً ملاحظة أنه لا توجد مدينةٌ متطوِّرة كبيرة واحدة (من الهند والصين واليابان شرقاً، إلى أمريكا وكندا غرباً) بدون متحفٍ للعلوم الطبيعية، يزوره طلاب مدارسها أكثر من مرّة؛ ولا يوجد متحفٌ منها يخلو من قاعةٍ رئيسةٍ فيها هيكل ديناصور!

قرب الهيكل عباراتٌ تشرح أن الدناصير كانت، لزمنٍ طويل، سيّدةَ كوكبنا، حتّى قبل 65 مليون سنة، مثلما الإنسان (الذي لم يكن موجوداً حينذاك) سيّدُ كوكبنا اليوم.

ثم انقرضت إثر سقوطِ نيزكٍ ضخم على كوكب الأرض الذي ارتفعت درجة حرارته بعد ذلك كثيرا، لِتُفنى كلُّ الحيوانات والنباتات التي لم تستطع التكيّف مع الظروف البيئية الجديدة.

كيف حسب العلم هذه ال 65 مليون سنة؟

عبر التحليل للهياكل العظمية للدناصير، بواسطة الكربون 14، الذي يدرس الطالب في المدرسة كيف ولماذا يسمح بتحديد تاريخ العظام والحجارة.

كيف برهن العِلم أن نيزكا هائلا سقط آنذاك؟

بطرقٍ مختلفة كثيرة، كان آخرها، بعد جهد جهيد، اكتشاف حفرة ضخمة مساحتها عشرة كيلومترات مربعة في المحيط قرب المكسيك، تشكّلت بالضبط قبل 65 مليون سنة!

 

يتسنّى بفضلِ ذلك للطالب الحديث امتلاكُ رؤية أخرى لتاريخ الكون وسيرورة الحياة على الأرض، مبنيّة على المنهج العلمي. تُواصل المدرسة رفدَ ذلك بِعرض حفريات هياكل سلسلة السلالات الإنسانية التي لم تتشكّل جميعها وتتواتر إلا في السبعة ملايين سنة الأخيرة فقط، وبِشرح أنماط حيواتها عبر تلك العصور.

 

الاتجاه الثاني: تقديم الاكتشافات العلمية الحديثة في كل المجالات للقارئ بطريقة بهيجة تسهِّل له فهم السبب والكيف، وجوهر الدليل، أكثر من مجرد البحث عن الاستعراض الشكلي الفضفاض لهذه الاكتشافات، بشكلٍ لا يختلف عن أسلوب الإثارة في استعراض الأطروحات الميتافيزيقية.

 

الاتجاه الثالث: الحديث والنشر المستمر في منابرنا الثقافية لتاريخ العلم. مهمّ جدا ذلك لأنه يُجلي للإنسان منهج التساؤل والشك والرفض والبرهان العلمي. يتعلّم المرء من خلاله أن أيّة فرضية لا تتحوّل إلى حقيقة علمية إلا بعد برهنتها، كحال فرضية انقراض الدناصير.

 

الاتجاه الرابع الغائب بشكلٍ كليٍّ تقريباً في حياتنا الثقافية العربية وهموم منابرنا الثقافية: تنمية توغّل العلم في ثنايا وأعطاف الأدب، بأسلوب يهدم الأسوار الصينية بينهما، ويُلغي شرطة الحدود التي تفصلهما.

كمثل: مجرد عرض مسرحية بريخت: “حياة جاليلو” في المدرسة يلعبُ دوراً مباركاً رائعاً وعميقاً في تنمية العقلية العلمية وتجذيرها.

كذلك حال الرواية العربية المنشودة: يلزم أن تفتح أحضانها للعلم.

ففي الغرب مثلاً، تعكسُ الرواية بِطرق شتّى المعارف العلميّة واكتشافاتها المتتالية: ليس فقط لأنها تحكي روائيّا قصص الأفكار العلميّة واصطدامها بالأفكار السائدة وتفاعلاتها مع المجتمع، وليس فقط لأنها تعكس اكتساح العلم رؤيةَ الناس للواقع والحياة، لكن لأنها تقدّم دوماً، في أنحاء مختلفة من النص الروائي، تأملات الكاتب الكونية والفلسفية من وحي روح الأفكار العلمية…