رحلتان على الباص 29، والمقعد 29

حبيب سروري

 

أمين معلوف أحد أسماءٍ معدودة تحوِّلُ المرءَ إلى كاميكاز: أهرع لاقتناء أي كتابٍ له، يوم صدوره، مهما كانت ظروفي، حتّى وإن كنت أعرف مسبقاً أني لن أقرأه قبل بضعة أسابيع من شرائه.

لم يكن لهثي نحو كتابه الأخير: “مقعدٌ على السين” (جراسيه، مارس 2016)، بسبب هذه الطقوس “الدينية” فقط، ولكن لعلاقةٍ حميمةٍ تربطني برقم 29 ــ ذي الأهمية المركزية في هذا الكتاب ــ سأتحدث عنها بعد استعراضه.

 

يعرف الجميع أن أمين معلوف دخل مؤخراً أكاديمية “الخالدين” بعد وفاة أحد أهم قامات القرن العشرين: الأنثروبولوجي الشهير كلود ليفي شتروس صاحب الكرسي رقم 29.

تضمّ الأكاديمية الفرنسية أربعين مقعداً مثقلاً بالذكريات والتاريخ، تُطلُّ على نهر السين، تحت قبّةٍ من قباب الأبدية. لا يُنتخب لعضويتها المرءُ إلا بعد جهادٍ وعطاءٍ أسطوري، وفشلٍ متوالٍ غالبا، كما حدث مثلاً لفيكتور هوجو، كورناي، فولتير…

يدخلها المختارُ بعد ذلك، برفقة بقية الخالدين، في حفلٍ إعلاميٍّ وطنيٍّ مبجّل؛ بطاقم ملابسٍ تقليدي أخضر، وسيف على أيمن الخاصرة.

يقرأ فيها خطاباً تاريخيا مكرّساً لاستعراض حياة وعطاء من ورث منه المقعد.

 

غنيٌّ عن الذكر أن صاحب “صخرة طانيوس” و”سمرقند”، و”ليون الأفريقي” جسرٌ يربط الشرق بالغرب. مؤلفاته الروائية والتاريخية تُحفٌ خالدة. غير أنه في كتابه الأخير وجد مواده الخام الأثيرة جميعها معاً، لِيُفجِّر كل مواهبه دفعةً واحدة.

 

يحكي فيه قصّة هذا المقعد رقم 29، الذي جلس عليه 18 “خالداً”، منذ تأسُّسِ الأكاديمية الفرنسية في عام 1634.

أوّلهم: بيير باردان، فيلسوفٌ وعالم رياضيات. اقترِحَ عليه الانتماءُ للأكاديمية حال ولادتها من رُحمِ دائرةٍ سريّة مغلقة ضمّت بعض كبار أدباء وكتاب فرنسا في عصر الكاردينال دو ريشيليو.

أجاد أحد كبار الدائرة، الناقد والشاعر شابلان، إقناع البقية بقبول تحويلها إلى أكاديمية علنية، بعد أن اكتشِف أمرُها لِلكاردينال، وأضحى من الخطورة بمكان رفض إرادة الحاكم.

 

لم يتحمّس باردان لدخول الأكاديمية لأنها كانت تضمّ واحداً سرق منه عنواناً أسرّهُ له، لِكتابٍ ينوي نشره!

نهاية باردان لم تكن سعيدة: ضحّى بحياتِه غرقاً في نهر السين لينقذ تلميذه! دعى ذلك “الخالدين” للتفكير بالطريقة الاحتفالية التي يودِّعون بها من يغادر منهم الحياة. اتفقوا على حفل استثنائي خاص لكل فقيدٍ، في الحاضر والمسقبل؛ ونظمِ مدحٍ شعريٍّ يُنقش على ضريحه.

 

ثمّ تمّ إلغاءُ هذا الطقس عقب تجربة باردان، بسبب خللٍ فنيٍّ في قصيدة مدحه، كتبها مع ذلك شابلان نفسه، أحد أهم أسماء أوربا حينها.

قادت القصيدة إلى لغطٍ وسخريّة. السبب: لم ينجح الشاعر في اختيار كلمتين فيها، لِهوسِه بالقافية على حساب رداءتهما.

تغيّرت طقوس توديع فقداء الأكاديمية عقب ذلك، واستُبدِلت بتقاليد إلقاء خطاب نعي الراحل من عضو الأكاديمية الذي يرثُ مقعده.

 

لعلّ ذلك الخطاب هو ما دفع معلوف لِتأليف هذه الرواية. إذ عندما درس سيرات أسلافه الثمان عشر، فوجئ بأن أحدَهم مؤلفُ السبع مجلدات عن “تاريخ الحروب الصليبية”، نموذجُ معلوف منذ أن اتّكأ كثيراً على أعماله وهو يكتب مؤلفه الأول: “الحروب الصليبية، كما يراها العرب”: جوزيف ميشو.

شعر معلوف بحسرةٍ لأنه لن يستطيع، في الخطاب، استعراض علاقته بميشو، وسيرة حياته الثريّة، هو الذي أدين مرّتين بحكم الإعدام، ونجا من أحدِهما قبل تنفيذه بقليل، بتخطيط أحد المعجبين به، وبدون علمه، وبطريقةٍ عبقريةٍ مثيرة سردها معلوف بجبكةٍ وإيقاعٍ روائيين ممتعين!

“كان طيف ميشو حاضراً بقربي تحت قبّة الأكاديمية عندما نهضتُ لإلقاء خطابي”، يقول في مقدمة كتابه صاحبُ “الاسم المائة”.

 

يتكوّن الكتاب من 18 فصلٍ، كلّ فصل يروي حياة أحد “أسلاف” معلوف ممن ورثوا المقعد. هكذا، وظّفَ معلوفُ مواهبَه لِيكتب روايةً واحدة تتعانق فيها 18 رواية صغيرة. أو، لِنقل، لِيكتب مؤلفاً تاريخيّاً يسرد، من 18 زاوية، الأربعةَ قرون الأخيرة من تاريخ فرنسا، بلغةٍ روائيةٍ فنيّةٍ جذّابةٍ آسرة.

كم أجاد فيها الاختيارَ الفني للتفاصيل، وهندسةَ البنية الخاصّة لِكل فصل، والإلمامَ بكل المراجع والأعمال الشاسعة لأسلافه الثمانية عشر! كلّ ذلك في 330 صفحة تُشربُ شرباً في يومٍ وليلة.

 

بعد فصل باردان، تأتي قصة حياة نيكولا بوربون الذي لا يكتب إلا باللاتينية، ثمّ فصل ذلك الذي انتخبه الأكاديميون بدلاً من بيير كورناي، نجمِ عصرِه، لتلافي دعك روح الكاردينال دو ريشيليو المعادي لكورناي!

سيقول الفيلسوف آلمبير، بعد قرنٍ من ذلك الاختيار الموارب: “بسببهم تحوّل لقب الأكاديمي إلى عاهرة!”.

 

تتواصل الفصول نحو السابع، عن حياة من اختاره الأكاديميون بدلاً من فولتير! وتتقدّم نحو العاشر المكرّسِ لِمن أُدين بالإعدام مرّتين، حبيبِ أمين معلوف: المؤرخِ جوزيف ميشو.

لعلّ هذا الفصل يضيء أيضاً تاريخ الثورة الفرنسية وبعض تفاصيلها المهمّة، بتكثيفٍ لذيذ، ومن زاويةٍ أخّاذةٍ مداهمة.

 

يتقدّم ليصل في الثالث عشر إلى شخصٍ هامّ جداً، عاش فترةً من حياته في قرية في جبل لبنان، وكتب فيها أشهر وأهم كتبه: “حياة عيسى”، تجرأ فيه تقديم المسيح كإنسان، ليثير حينها سخطاً عارما في الأوساط الدينية والشعبية: إرنيست رينان.

قصة حياة رينان طويلة. استحوذتني فيها رسالة نابليون الثالث، للاعتذار له على توقيف محاضراته في “كوليج دو فرانس” (الرئة الثانية للثقافة الفرنسية، بجانب أكاديمية الخالدين) لأنها “تمسُّ أسس الديانة المسيحية، في كليّة تابعة للدولة”، رغم إعجاب الإمبراطور الشخصي برينان، كما ذكّرهُ في الرسالة.

ثمّ عاد رينان لاحقاً لكوليج دو فرانس كبطلٍ هذه المرّة، بعد سقوط الإمبراطورية الفرنسية الثانية، وقبل أن يعتبر الجميعُ، بما فيهم المسيحيون المستنيرون، أنه أنقذ المسيحية وجعلها تتأقلم مع الحضارة الحديثة، بإدخاله منهج النقد العلمي التاريخي لِقراءة التاريخ الديني.

 

يواصل الكتاب رحلته حتى الأكاديمي السابع عشر: هنري دو مونفرلان، الروائي والمسرحي الذي قال: “يلزم أن تعرف كيف تموت جيداً، بعد أن تعيش جيداً”، قبل أن ينتحر في شقته وهو يواجه نهر السين، بعد حياةٍ مثيرةٍ جدا، هي الأخرى روايةٌ داخل رواية.

يختتم روايته بالعملاق الإنثروبولوجي الخالد: ليفي شتروس.

 

أعود لما قلته في البداية عن دور الرقم 29 في هروعي نحو كتاب معلوف بانجرافٍ فاق العادة هذه المرّة: ديوانُ شِعرٍ عنوانُه “في مديح خط الباص رقم 29”!

ينطلق هذا الباص من محطّة قطار سانت لازار في غرب باريس، حتّى شرقها. يمر ب 35 محطّة.

أحيا الشاعر في ديوانه، بأسلوبه الخاص، تقليداً شعرياً عريقاً، أبدع فيه قبله أراجون وأبولينيير وغيرهم ممن تغنّت قصائدهم بشوارع باريس بعشقٍ مطلق، لاسيّما وأن الشاعر أخذ يوميّاً ذلك الباص خلال سبع سنوات، وارتبط مع محطاته بعلاقة حميمة.

 

بنية الديوان الذي ظهر قبل رواية معلوف بسنتين: 35 مقطعا من بحر الشعر الفرنسي السداسي “الكسندران”، كل مقطعٍ مكرّسٌ لمحطة من محطات الباص.

جذبني ذلك الديوان ورحلته الشعرية في المكان، ثم أدهشتني هذه الرحلة المعلوفية في باص الزمان، على المقعد 29. ممتعٌ ومفيدٌ جدّاً اكتشاف جميع محطاتها الخالدة: أعمال أبطالها، صراعاتهم، غيراتهم، وعلاقتهم المثيرة بالسلطة والسياسة… وموقعهم الجوهري الساطع في كل مناحي الحياة في الماضي، قبل أن يخسف موقعهم كثيراً في هذا الزمن الجديد، زمنِ الفقاعات المالية والشاشات، الذي يمكن أن يصبح المرء فيه نجم النجوم، دون أن تربطه علاقة بالفكر والعلم والفنون!

 

خسف موقعهم كثيرا أيضاً لسلسلة أسباب ذاتية محضة، أحدها أن الصرفيات الباذخة لهذه الأكاديمية صارت مثار غضب الكثيرين: مليونان ونصف يورو لنفقات أعضائها الأربعين، تزداد سنوياً رغم العدد الثابت لأعضائها منذ تأسيسها!

أدّى ذلك إلى نقدٍ لاذع من “محكمة الحسابات” وكشوفات لمجمل النفقات الفاسدة التي اكتسبها البعض: “الخالدون يكلفون كثيراً”.

 

الأهم: معظم الأكاديميين موميات ذوو ميولٍ فكرية يمينية رجعية. الطريقة التي دخل بها الفيلسوف آلان فانكلكروت الأكاديمية في 2014 أثارت سخطاً لخّصه عنوان صحيفة: “اليمين المتطرف لا موقع له تحت القبّة!”.

من ينسى بالمقابل أن الكاتب الكبير أميل زولا، صاحب رسالة “إني اتّهم”، لم ينل عند ترشيحه للأكاديمية، قبل حوالي قرنين، غير صوتٍ واحد!…

 

الأسوأ: الأكاديمية هيلين كارير دانكو، التي أطلقت من إذاعة روسيا تصريحات تافهة لا تخلو من العنصرية عقب أحدات الضواحي في فرنسا في 2005، ظلّت تضع في مكتبها صورة أحد الأكاديمين الذي طرد من الأكاديمية بعد الحرب العالمية الثانية لمواقفه النازية!

صُدم فيليب سوليرس عندما رأى الصورة، ورفض ترشيح نفسه لدخول الأكاديمية بسبب ذلك!