السماء تمطر في جهنم!

حبيب سروري

40 ألف غريقٍ منذ 1990 في الأبيض المتوسط، على تخوم قارّةٍ شُيِّدت لتكونَ: “قارة حقوق الإنسان”.

أكثر من 3600 منهم لقوا حتفهم العام الماضي 2015 وحده!

بين الغرقى عائلةُ هذه الأم الحزينة، القابعة في إحدى خيام “جيتو” عشوائي، يقع في شمال شرق مدينة كالِيه الفرنسية، في مساحةٍ مستطيلة على تخوم خط السيارات السريع، قريباً من بحر المانش الذي يمرّ نفقٌ أسطوريٌّ ـ حقيقيٌّ تحته، تعبرهُ شاحناتٌ تجارية في الاتجاهين. ويمرق فيه كل ساعةٍ تقريبا قطارٌ شهيرٌ يربطُ، في ساعتين ودقائق، كبدَ باريس بقلبِ لندن: الأوروستار.

 

من أنقذ هذه الأم التي فقدت أطفالها؟

لعلّه متطوِّعٌ من إحدى سفن الإنقاذ الضخمة التي تحوم في أرجاء البحر، عليها شبابٌ وشيوخ، أطبّاءٌ ومتخصِّصون في الإنقاذ، يحافظون على آخر عِرق إنسانية، في جبين كوكبٍ ممحونٍ بسرطانِ الأنانية والعنفِ، وكذبِ السياسيين وجشعِ رجال المال، وعدم اكتراثهم بمصير مسحوقي وجياع العالَم.

 

هدف المتطوِّعين: إنقاذُ “سفن الموت” وهي تتشقّق وتتحطّمُ بين الأمواج، وعليها لاجئون مرتصّون كأعواد الثقاب، يفوق عددهم 4 أضعاف الحدّ المسموح الأعلى، تصلّبت أرجلهم لعدم المقدرة على السير خطوةٍ واحدة وسط الاكتظاظ، حتى لقضاء حاجة!

 

أحد المتطوِّعين أنقذ منذ سنين 1200 لاجئ!

يقول: “ليس لديك الوقت لترتبط بعلاقةٍ ما مع الغريق. لا تبقى في ذاكرتكَ حتى الموت إلا ميسم نظراته إليك، وأنت تنتشِلُهُ من شدق الأمواج، فيما يغرق وهو يحاول إبقاء رأس طفلٍ في أحضانه مرفوعاً أعلى الموج، أطول وقتٍ ممكن. تنقذهُ… ثم تذهب صامتاً لركن السفينة كي تبكي لوحدكَ سرّاً بغزارة، دون توقّف، لا تدري لماذا”.

 

غير أن طريق الكثيرين مسبوكٌ بالزوابع والأعاصير، يهرول نحو قاع المحيط بعيداً عن أحضان المُنقذين. أحدهم الطفل السوري إيلان، 3 سنوات، مات مع عائلته غريقاً بين تركيا واليونان، واكتشفه العالَم ممدّداً على شاطئٍ تركي، كَ “نائمِ الوادي” في قصيدة آرثور رامبو:

جنديٌّ شاب، فاغرُ الفاه، عارِ الرأس

يستحمُّ عنقه على جرجريرٍ رطبٍ أزرق

يغفو مضطجعاً على العشب، في العراء

شاحباً في سريرهِ الأخضر، تحت ضوءٍ ماطرٍ خفيف

لا تدغدغُ العطورُ منخاريه

ينام تحت الشمس، يده أسفل الصدر

هادئاً. في ضلعه الأيمن ثقبان أحمران.

 

قبل ذلك بقليل، سبعون لاجئاً ماتوا مختنقين في سفينة تثليج في طريقها إلى النمسا.

وفي الربيع الماضي، سفينةُ صيدٍ تنهارُ بين ليبيا وصقلية، ومعها 800 لاجئٍ غريق…

 

“غابُ كالِيه”، كما يُسمّى هذا الجيتو، خيامٌ وعشش، وكنائس ومساجد بدائية، بناها بعشوائية بضعة آلاف من الهاربين من المجاعات والحروب، جاءوا من أفغانستان، إرتيريا، السودان، سوريا، العراق، إيران… وقطعوا آلاف الكيلومترات مشياً وعبوراً سريّاً حتّى أطراف مدينة كالِيه، في أقصى شمال فرنسا.

 

اختاروا أرضَ ميعادهم: بريطانيا، حيث يقطن أقرباء لهم ومعارف، وأملٌ عنودٌ بالحصول على عملٍ شريف، بِلُغةٍ يجيدونها أكثر أو أقل.

فقدوا كل شيءٍ في طريقهم إلى أرض الميعاد، ولن يمنعهم من الوصول إليها أحد. أمامهم بريطانيا، وخلفهم الموت. وبينهما بحرٌ باردٌ يُهشِّمُ العظام، يحاولون اختراقه عبر اليوروستار أو الشاحنات، عبثاً!

 

في الطريق إليها، كلُّ انحطاط العصر وسفالات سياسات العالَم: حدودٌ تتصلّبُ وتتشدّدُ وتتشنّجُ وتنغلق، أسلاكٌ شائكة، عسكرٌ وعنصريون، وقرارٌ بتهديم هذا الجيتو ونقل سكانه إلى ملاجئ في مدنٍ فرنسية أخرى غالباً… بعيداً عن بريطانيا، حُلم أحلام هؤلاء المساكين.

 

غابُ كالِيه عصارةُ كل آلام كوكبنا الحزين. مسرحٌ يُكثِّف كل صراعات وأوجاع العالَم.

في هذا الجيتو، بين المطر والطين والمستنقعات، ترى الأوجه الثلاث للإنسان المعاصر:

 

الوجه الأول: ضحايا الحروب والاقتصاد، الباحثون عن حياةٍ كريمة خلف أوطانهم المنهارة، وبأعينهم كل حسرات وأحزان وقهر وجراح العالَم.

 

الوجه الثاني: هؤلاء السياسيون الجبناء الذين ينظرون لمعانات الضحايا بعدم مبالاة غالباً، أو بعدوانيةٍ تستجيب لرغبات وضغوط عنصريي اليمين المتطرف، تُلخِّصُهم عبارة الوزير البلجيكي الذي قال هذه العبارة المقيتة: “لا تقدّموا لهم الأكل حتّى لا يصل إلينا لاجئون جدد!”.

ووجه الشرطة الفرنسية التي تمارس دور كلب الحراسة للحدود البريطانية بموجب اتفاقٍ بين البلدين…

 

الوجه الثالث مشعشعٌ منير في عصرٍ داكنٍ، القابضُ فيه على مبادئ حقوق الإنسان كالقابض على جمرة: عددٌ كبيرٌ من المتطوِّعين والمنظمات الإنسانية والفنانين الذين جاءوا هنا لِدعم هؤلاء اللاجئين، يقدّمون لهم الملابس والمأكولات، الجوارب والأحذية، ويؤانسونهم في محنة هذا السجن الشقي.

ضمنهم ممثلون يعرضون لِلّاجئين، بين الريح والمطر، مسرحياتٍ كُتِبَتْ ملخصاتُها بمختلف لغات شعوب الغاب.

يقول أحد هؤلاء اللاجئين وهو يُصفِّق ضاحكاً في نهاية مسرحية هاملت: “لكني جئتُ لأجل بريطانيا، لا لِمسرحية!”.

 

غابُ كالِيه: “بابل البؤس”، كما يسمّيه لوران جوديه، صاحب رواية “شمس سكورتا” التي نالت جائزة غونكور 2004؛ “الطرفُ الأخيرُ لِهزيمة”. هزيمةُ مسحوقين هاربين من قهر الطغاة وعنفهم، وتجويع الناهبين وعبوديتهم. لا تريدهم بريطانيا، ولا تسمح لهم فرنسا بمغادرتها بسبب الاتفاق بين البلدين.

 

وافقت المحكمة في 24 فبراير 2016 على طلبِ بلدية كاليه بتهديمِ جنوب الجيتو، خلال شهرٍ من القرار، ونقلِ أفراده إلى ملاجئ رسميّة، بعضها مجاورة ومعظمها في مدنٍ أخرى.

معظم اللاجئين، الذين يعرفون جيّداً ماذا يريدون ولهم في حياتهم هدفٌ واحدٌ أحد: بريطانيا، رافضون لقرار تهديم الجيتو، أو لِمغادرة المكان إلا إلى أرض الميعاد. يتضامن معهم المتطوّعون والفنّانون والمجتمع المدني.

الجيتو، والجيتو وحده، مدينتهم. والبلد القابع وراء البحر، بريطانيا، مرفأ ما تبقّى من أعمارِهم، وما ضحّوا لبلوغهِ بالغالي والنفيس.

 

صراعٌ يوميٌّ بين المتضامنين معهم، وبين العسكر، واليمين المتطرف الذي يرفض تواجد اللاجئين في تخومِ مدينته. بردُ الشتاء القارس في الشمال يشرخُ العظام. المطر لا يتوقّف عن السقوط على هذا الغاب الذي يسبح فوق مستنقع. كومات زبالات وفئران ميّتة هنا وهناك. قاذورات وحشرات. مطرٌ باردٌ لَيلَ نهار.

 

“أعرف الآن أن السماء تمطر في جهنم!”، يقول أحد اللاجئين وهو يخرج معطوف الظهر من خيمته، لِيصفعَه مطرٌ عدوانيٌّ مقيت. ترَكَتْهُ في العراء إنسانيةٌ أنانية، وأغلقت في وجهه حدودَها سبعةُ دولٍ أوربية مجاورة.

زمنٌ مخجل. عالَمٌ بائس.

المتضامنون من الشباب والشيوخ، ومتطوعوا سفن الإنقاذ في الأبيض المتوسط، وحدهم من يُذكِّرنا فعلاً هنا بأن ثمّة قليلاً من الإنسانية في هذا العالَم.

 

عندما أراد ساركوزي محو هذا الجيتو نفسِه في أيّام رئاسته، صرخ هولاند: “لا يُحتمل!”، مُضِيفاً:

“يلزم حلٌّ إنسانيٌّ لكلِّ واحدٍ من اللاجئين. محاولةُ إخفاءِ هذه الأوجه التي لا أستطيع النظر لها، وهؤلاء الأشباح التي تُذكِّرنا بالحروب… يزيد من الأزمة”.

ثمّ قال حينها هذه العبارة المحفوظة بين تجاعيد ذاكرة غوغل: “ثمّة، خارج الغاب، ضرورةٌ للاختيار بين الحضارة والهمجيّة!”.

 

مثلما كتب محرّر صحيفة ليبراسيون الفرنسية: “صدق الرئيس هولاند! يلزمه اليوم أن يختار بين الحضارة والهمجيّة!”.

 

مساكينٌ رؤوساء اليوم! تخذلهم ذاكرة غوغل. لعلّهم يَغِيرون من حظّ قادة زمن الذين لم تعكّر مزاجهم يوماً ذاكرة ما قبل الإنترنت. حكموا العالَم بسعادة، حامدين الله على نعمة النسيان لدى شعوبهم الحبيبة.