احتفالات النمور في عام القرد

حبيب سروري

 

“إعرف الآخرَ تعرفُ نفسك”: أوّل التعاليم الجوهرية، لأهم كتب الاستراتيجيات وأشهرها، منهل ومرجع الإستراتيجيين الأول: “فن الحرب”، للقائد العسكري الصيني سان تزو.

شرح فيه، 6 قرون قبل الميلاد، كيف تُكسَب الحرب ـ بمعناها الأوسع: عسكرية، اقتصادية، اجتماعية…ـ بالذكاء الخالصِ المطلق: دون مواجهة، دون قطرة دم.

لذلك ما زال الكتاب إلى اليوم طليعيّاً بامتياز. إذ كان الإغريق، معاصرو سان تزو، والغرب حتّى اليوم، يرون الحرب مزيجاً من المواجهة الدامية العنيفة، كحرب طروادة، وحيلاً ذكيّة كحصانها الشهير.

 

فاتحة استراتيجيات الكتاب تعني: لا تسبر غور نفسك من خلال التحديق فيها بالمرآة، أو بالدوران حولها كالخذروف، ولكن بفضلِ وعِبر معرفة الآخر، أوّلاً وأخيراً.

إذ بدراسة تاريخه وفكره ونفسيّته وثقافته ونمط حياته، واستشراف نواياه، ومقارنتك به، تستطيع أن تعرف نفسك وأنت تراها في مرآته، وفيها فقط.

 

ما أحوجنا كعرب إلى ذلك، نحن الذين لا ندرس تاريخ الشعوب، ونجهل الآخر تماماً في الغالب، فيما يعرف كل تفاصيل حياتنا!

أتذكّر يوماً أني، في لقاء مع مثقفين عرب، وضعت السؤال التالي الذي كنتُ أجهل الردّ عليه: “هل يجوز في الديانة اليهودية الزواج من أربع نساء، ومتى؟”. كان الجميع مثلي غير قادرٍ على الإجابة الصحيحة على سؤال بهذه البساطة.

 

ما أحوجنا إلى هذه الاستراتيجية بشكلٍ خاص مع دول جنوب شرق آسيا، مركز حضارة المستقبل، حيث “فن الحرب” إنجيل السياسة والحياة!

تدرُسنا هذه الدول بصمت، تراقب حروبنا الميتافيزيقية في الشرق الأوسط والغرب بابتسامةٍ مكتومة، كما “يراقب أسدٌ من أعلى الأكمة ذئبين يتصارعان أسفل الوادي”، حسب توجيهات سان تزو.

 

وجدتُ نفسي في مدينة هوشي منه (سايجون سابقاً) على هامش مهمة عمل، في يوم 7 فبراير الماضي الذي بدأتْ فيه رأس السنة الصينية، وانتقلَ فيه التقويم من “عام العنزة” إلى “عام القرد” ذي الأهمية الكبيرة هناك، مثل “عام الحصان” و”عام التنين”، كون القرد ابن عمِّ الإنسان، وأقرب الحيوانات إليه: يشترك جينوم الإنسان مع جينومه ب 95٪ من الجينات.

 

أستحوذني منذ البدء شعار “عام القرد” الذي ما أمسّ حاجتنا إليه كعرب:

“لا تركن على منظمة أو لجان أو اتحادات، إعتمد على نفسك لا غير!

تعلم كيف تلد الربيع والصيف.

أخلق مشروع حياتك أنت وحدك!”

 

فاجأتني سايجون، العاصمة الاقتصادية لأحد نمور جنوب شرق آسيا، والحياة تتوقّف فيها طوال أسبوع. تنغلق فيها كل مرافق العمل والمطاعم والمتاجر، ويغادر معظم الناس للأرياف ولقاءات العائلات والأصدقاء.

خلو منملةٍ ومدينةٍ كوسموبوليتية بمقامها من قطعان الدراجات النارية أكثر من مفاجئ!

هذه المدينة التي اشتهاها الاستعمار الياباني والصيني والفرنسي والأمريكي، ويهرع نحوها السوّاح والشباب الغربي للعمل؛ عاصمة بلدٍ طرد فرنسا وأمريكا وهما في أوج هيمنتهما على العالم، وحرّر كمبوديا من نظام بول بوت؛ تقضّي رأس عام القرد مستلقية بفستان الاسترخاء والتأمل، مفروشةً بالورود الصفراء، تتناثر فيها الاحتفالات البهيجة!

 

مذهلٌ هذا البلد وهو يتكيّف مع نظام العولمة بطريقته الخاصة: لا تحتاج إلى فيزة لبلوغه، ولا حتّى إلى استمارة تملؤها في المطار، ويحقّ للأجانب اليوم الملكية الخاصة فيه، لكنه يظلّ محتفظاً بسياسة الحزب الواحد وأسس الحياة السوفيتية، لا سيّما كبح حريّة التعبير.

جليٌّ أن “فن الحرب” يُنظِّمُ فلسفة حياته، وهو يتلاءم كجدول الماء مع تضاريس الصخور المحيطة. إذ أن نموذج الحركة في كتاب سان تزو هو الطبيعة: “يسيل الماء على إيقاع تضاريس الأرض. كذلك، بالانسجام مع تغيُّرات وضع العدو يُكسَبُ النصر”، يقول المعلِّم الأوّل.

النتيجة: فيتنام صيغة تمتزج فيها “الماركسية اللينينية” بالاقتصاد الرأسمالي المعولَم، دون تغيير الهويّة الجنسية لأحدهما ليتماهى بالآخر!

 

بانكوك، عاصمة نمر اقتصاديٍّ آسيويٍّ آخر، تبعد عن سايجون ساعةً بالطائرة فقط، وإن يبدو بينهما اختلاف دهرٍ في نمطِ الحياة، حيث تايلندا مملكةٌ دستورية مندمجة بالعولمة وبالغرب منذ زمن. وصلتُها بعد بضعة أيام سايجونية.

 

صدمتُ إيجاباً حال عبور هذه المدينة: تطوّرٌ حضاريٌّ ومعماريٌّ واقتصاديٌّ مرموق. شعبٌ جميلٌ يبتسم على الدوام.

ضاعف من إعجابي به أحد معايير تقويمي للآخر ومستواه الحضاري: “أرِني سوقاً شعبياً في بلدكَ، أقولُ لك من أنت!”.

إذ أن سوق شاتوشاك، أكبر الأسواق الشعبية في كلِّ آسيا، متنفّسٌ ممتع لا تملّ عبوره، مزيجٌ رائع تختلط فيه جرعةٌ مناسبةٌ من العولمة، بأخرى غدقة من الأصالة والثقافة المحلية. يموسقهُ نظامٌ كليّ لا يخلو من شذراتٍ من العشوائية الآسيوية اللذيذة. ثراء في المنتجات، وسعرٌ رخيصٌ ثابت.

 

ثمّ عبرتُ خلال 3 أيام أهمّ المراكز العصبيّة: الأحياء التجارية والرسميّة المهمّة؛ القصر الكبير؛ معبد البوذا الزمردي؛ معبد البوذا المضطجع؛ معبد البوذا الذهبي، حيث أكبر تمثال لِبوذا مسبوكٍ من الذهب الخالص: 5.5 طن، عمره 7 قرون ولم يسرق أحدٌ أصبعاً منه!…

 

بعد أن سقطتُ في حبِّ هذه المدينة المتطوِّرة الناهضة، عادت إلى ذاكرتي بغضب الصورة القاتمة التي يقدِّمها البعض عن تايلندا كبلدٍ تعيش على صناعة الجنس! صدمتُ في الحقيقة من ديكتاتورية الإكليشات والصور النمطية المغروسة وهي توصم سلباً عاصمة بلدٍ ميزانية تعليمه 3 أضعاف ميرانية وزارة الدفاع!

 

كدتُ أبعث بإيميلٍ جماعي لقائمة أصدقائي أدين فيه تلك الصورة التعسفيّة، قائلاً إن اختزال بانكوك بشارعٍ داعرٍ فيها، أشبه باختزال باريس بشارع البيجال!

تأنّيتُ عن بعث إيميلي، لأني لم أعد مراهقاً في الخامسة عشرة. فالمسألة أكثر تعقيداً، وثمّة حياةٌ تحت أرضية لم أرها ربما. لجأتُ إلى القراءة لاستيعاب ظروف وتاريخ هذه الصورة النمطية.

 

أدركتُ أن إمكانية تعدد الزوجات في تاريخ تايلندا، وفقر مناطق الشمال، قاد فعلاً منذ زمن إلى نمو تجارة المرأة والجنس.

ثمّ لعبت العولمة منذ فجر التسعينات دوراً فاسقاً في إذكاء هذه التجارة، بعد أن ألغت الحدود، وفرضت سياسة العرض والطلب، حتى في الدعارة: مومسات الدول السلافية الشقر، كروسيا، لشريحةٍ اقتصادية اجتماعية من الناس. ومومسات تايلندا لشريحةٍ أخرى.

ثمّ زادَت الطينَ بلّة أزمةُ تايلندا الاقتصادية في منتصف التسعينات.

 

لكلِّ ذلك لا يمكن إنكار أن تايلندا أصبحت حينها أحدَ مراكز نشاطات شرائح دنيئة من خنازير العالَم تعيش على استغلال شقاء فقراء الأرض، لا سيّما أطفاله؛ وملجأً لِلمحرومين والأشقياء جنسيّاً من بؤساء العالم.

 

غير أن النمو الاقتصادي الحالي، وسياسة التعليم، ونشاطات بعض المنظمات الإنسانية في المناطق الفقيرة، تعمل جاهدةً اليوم على مكافحة استغلال الأطفال والفقراء جنسيّاً، ودمجهم بالنهضة والتنمية.

 

بانكوك مدينة كوسموبوليتية بامتياز: حيثما تولّي فيها، ثمّة “شاينا تاون”، أو “إنديا تاون”، أو أحياء عربية تعجّ بمختلف مطاعم العرب، بما فيها اليمنية!

غير أن أحد أجمل متعاتها اليومية: “الماساج” التايلندي الشهير.

بعيداً عن استيهامات البعض وانحرافات المنحرفين، المدينة حافلة بمراكزه المفتوحة المكشوفة، التي تنتشر فيها انتشار المقاهي في باريس.

الماساج هنا تقليدٌ عريقٌ وفّقَ بين فنون التقاليد الصينية والهندية والمحلية. يقال إن مؤسِّسه طبيب بوذا. لعلّه يفسِّر تميّزَ رشاقة السيقان الأنثوية التايلندية التي يتحدّث عنها بعض الأدباء والفنانين!

 

تدخل في تايلندا مركز الماساج يوميّاً إن أحببتَ كما تدخل مقهىً لتناول الشاي! ساعةٌ من ماساج الرجلين متعةٌ وراحةٌ خالصة.

تعبرُ رجليك أصابعُ أيدٍ ماهرةٌ تعرف خرائط أليافها العصبية، تفكك توتّرها، تحلّ عُقَدها، تقشط تصدؤها… لِتخرجَ منها وأنت تطير بنعال الريح، كلّ صبعٍ من أصابع رجليك يهيمُ في بُعدٍ من أبعاد العالم.