هل أتاك حديث مووك؟

حبيب سروري

 

لعلّ جودة التعليم، ودعم وتطوير الثقافة، أهمّ وسيلتين تحافظ بهما الدول المتقدمة على موقعها الحضاري الطليعي.

جودة التعليم تقدِّم للمرء من ناحية: ما وراء المعارف (الغائبة في تعليمنا العربي) المبنيّة على تحفيز عقلية التساؤل والشك والنقد والرفض والبحث عن البرهان والفصل بين الحقيقة الدينية والحقيقة العلمية، أي على تعليم طرائق صناعة المعارف الحديثة؛

وتقدِّم المعارفَ، من ناحية أخرى، عبر تشييد وتحديث بنيةٍ تحتيّةٍ من المحاضرات والدروس والمقالات النموذجية المفتوحة للجميع، والتي تضمن وصول المعارف الأمثل إلى الإنسان، بأحدث وأسهل وأمتع الوسائل والطرق.

 

أي أن جودة التعليم تمنح المرء، إذا ما تذكّرنا المثل الصيني الشهير، تعلّم اصطياد السمك (ما وراء المعارف)، وتهديه أدسم وأحلى السمك في الوقت نفسه (المعارف).

بفضلهما معاً تنهض الشعوب وتتواصل ابتكاراتها وأولويتها الحضارية.

 

ثمة ضرورةٌ عاجلةٌ قصوى في الاستفادة عربيّاً من أبرز التجارب العالمية في مجال التعليم الحديث للخروج من أزمتنا الحضارية، وبشكلٍ خاص من آخر صرخات تقديم المعرفة النموذجية: “المووك” الذي سأتحدّث عنه هنا.

 

يلزمني أوّلاً التذكير بأنه على صعيد تعليم المعارف “المكتملة”، أي التقليدية الأساسية، ثمّة منذ أكثر من عقدين بوابات معرفية رقميّة عديدة مجانية، صنعتها مشاريع تدعمها الدول المتقدمة، وتشترك في صناعتها الجامعات، تقدِّم هذه البوابات دروساً نموذجية على الإنترنت في كل المجالات الفكرية والعلمية، يمكن قراءتها وتحميلها بكل الوسائل الرقمية، مدعومة بمواضيع مشاريع وتمارين محلولة وواجبات.

 

أدرتُ شخصيّاً في إحدى البوابات الفرنسية لعلوم الهندسة، مشروعاً لدروس كاملة في إحدى مواد علوم الكمبيوتر الرئيسة: Compilers. استمرّ المشروع لعامين، وساهم فيه زملاء في جامعتين في باريس ونيس (*).

 

هنالك أيضاً “التعليم الإلكتروني”، E_learning، متعدّد الوسائط الذي بإمكانه أيضاً تقديم محاضرات نموذجية أحياناً بوسائط صوتية ومرئية متطوّرة.

 

أمّا في تجربة التقديم النموذجي للمعرفة الطازجة التي في طريقها للاكتمال، عبر البحث العلمي، في شتّى المجالات الفكرية والعلمية، فهناك مثلاً تجربة نموذجية شهيرة ملهِمة تأسست في 1530: كوليج دو فرانس!

يقدِّم هذا الصرح العلمي المجاني المفتوح للجميع أحدثَ المعارف، عبر دروسٍ ومحاضرات متواصلة، في 52 مجال علمي، أدبي، فلسفي، وفني… يدرِّس فيه كل من نالوا جوائز نوبل من الفرنسيين، وجوائز فيلدس (ما يعادل نوبل، لكن في الرياضيات) ونخبة من أهمّ أكبر الباحثين. درّس فيها فوكو وشتروس على سبيل المثال.

ودخله مؤخراً الفرنسي يان لوكان، بروفيسور الذكاء الاصطناعي في نيويورك ورئيس مختبر الذكاء الاصطناعي لشركة الفيسبوك. ألقى محاضرته الافتتاحية في مساء 4 فبراير الماضي أمام جمعٍ هائل جاء قبل ساعات للحصول على مقعد.

إذ يعتبر الدخول للكوليج أرفع تقدير يناله العالِم الفرنسي، والمحاضرة الافتتاحية، التي تصدر في كتاب بعد ذلك، لحظة معرفية مرموقة.

 

يكفي الحضور لإحدى محاضرات الكوليج ليعرف المرء ماذا تعني محاضرة نموذجية!

حضرت مثلا قبل أيام محاضرة، ضمن درسٍ أسبوعي، عن “مناطق اللغة في الدماغ”. قدّم فيها أستاذٌ شرحاً لم يستعرض فقط متى وكيف بدأ اكتشاف موقع بعض مناطق اللغة في دماغ الإنسان منذ القرن التاسع عشر، بل شرح الطرائق العبقرية الجديدة المتنوّعة لتحديد خارطة شبكة مواقعها، وأجلى بالفيديو كيف يتمّ ذلك، عبر عرض صور سكانير الدماغ التي تضيء فيه على الشاشة هذه المنطقة الدماغية أو تلك، في هذه اللحظة أو تلك، عند نشاط مناطق اللغة أثناء سماع عبارات من لغةِ الأم، من لغةٍ أجنبية، أو من مزيجٍ منهما؛ أو من حديثٍ جانبيّ أو فيلم….

يرافق ذلك عرض فيديو لِمقابلات ميدانية مع مرضى، تعاني لديهم تلك المواقع الدماغية من تلفٍ كليّ أو جزئي، لِتبرهن طريقتُهم بالحديث صحّةَ خارطة شبكة مناطق اللغة.

 

تلى المحاضرة، كعادة الكوليج، سيمنار دعي إليه باحث أجنبي لِيقدِّم آخر اكتشافات العلم في المجال نفسه.

جميع محاضرات الكوليج موجودة بالفيديو في موقعه، ومفتوحة للجميع نهاراً ومساءً.

 

ثمّ ظهرت في السنوات الأخيرة فقط، لا سيما منذ عام 2012 الذي أطلق عليه “عام المووك”، كما يطلق على أعوام التقويم الصيني: “عام القرد” (هذا العام الذي بدأ في 7 فبراير 2016)، عام “الحصان”… وسيلة جديدة صارت حديث الساعة:

MOOC، Massif Open Online Courses

أو: المساق الهائل المفتوح عبر الإنترنت.

مساقات يحضرها البشر مجاناً عبر الإنترنت من أنحاء العالَم، لمتابعة محاضرةٍ ثقافية أو علميّة، والتفاعل معها.

يكفي أن يُسجِّل المرء طلب انضمام لأحد المساقات الشهيرة مثل Coursera، أو Edx، لحضور المحاضرة والتفاعل معها. عدد المسجّلين في الأوّل تجاوز ال 5 مليون قبل 3 سنوات.

 

فكرة المووك الرئيسة هي أن المرء لا يتعلّم فقط من المحاضرات النموذجية، بل من تفاعلاته مع الآخرين، ومن خوض تجارب ومشاريع ومغامرات ذاتية. أي، باستعارة تبسيطية، من مزج ما يشبه محاضرات كوليج دو فرانس، بالشبكات الاجتماعية كالفيسبوك!

 

لفتت هذه التجربة العالَم عندما سجّل 160 ألف طالب لمتابعة مووك في الذكاء الاصطناعي لجامعة ستانفورد، قبل سنوات. تنافست كبار المعاهد والجامعات بعدها، ومشاريع الدول، على تقديم أفضل المووكات، وأضحت هذه التجربة الديمقراطية الواعدة مفتاحاً جديداً للتعلّم، مدهشاً ومثمراً جدّاً.

 

من يتابع المووكات، لدراسة مادة علمية أو فكرية، يشدّه روعة أدائها وإخراجها (20 ساعة عمل من الأستاذ لإعداد ساعة محاضرة واحدة، وعدد شبيه من المهندس المخرج الفني للمحاضرة). تجذبه تمارينها المفاجئة، وأبواب مشاريعها الخاصة، وصفحات النقاش والاستفسارات التفاعلية التي تُذكّر المرء بالشبكات الاجتماعية.

لكأنَّ الحضارة الحديثة وجدت في صيغة المووك التفاعلي “حجرتها الفلسفية” التي تحوّل معدن المحاضرات التقليدية إلى ذهب، كما قال أحدهم!

 

أو باستعارة ميثولوجية، ثمّة في المووك ما يمزج بين البطلين الإغريقيين أبولو وديونيزوس!

الأوّل له “عين شمسيّة”، كما يقول نيتشه في “ولادة التراجيديا”. كلّ شيءٍ منظّم دقيق في طلعة أبولو، إله الموسيقى والشعر والجمال الذكوري. لعلّه رمز محاضرات الكوليج دو فرانس والمووك.

لكن لا يتعلّم المرء حقا بدون تجربة شخصية تكمّل العرض الأنيق، وتدخل معه بحوار وتساؤلات وجدلٍ وشدٍّ وجذب. يأتي هنا دور الشغف والرغبة والمغامرة والتجارب التفاعلية مع الآخر، أي دور أحد أهم وأشهر وأروع آلهة الإغريق: ديونيزوس، إله النبيذ والمسرح والتراجيديا.

 

ماذا عنّا عربياً؟

تحدّثت سابقا عن غياب لغة الضاد في عالم المعرفة حيث لا تُستخدَم اليوم لكتابة العلوم والمعارف الحديثة، لا تُدرَّسُ بها العلومُ، تُعاني من أنيميا قاتلة في مجال الترجمة عموماً، والمعرفية على وجهِ الخصوص، وتخلو من مصطلحات وصيغ المعارف العصريّة، لدرجةٍ تركت البعض يقول إنها لغةُ الدِّين فقط.

 

أعرف مثلاً أني لو كنتُ مترجِماً لجملة علميّة صغيرة تقليدية تلتقي فيها مثلا:

Compiler، Entropy، و Automata

لفكّرتُ ربما بالانتحار، لأني لن أجد عربياً ما يسمح لي بذلك!

لا توجد غالباً حتّى مصطلحات عربية (فما بالكم بدروس أو مواد معرفية!) لترجمة مثل هذه الكلمات شديدة الجوهرية في المعلوماتية والفيزياء، أو يترجمها كلّ بطريقته، كالثانية: انتروبيا، فوضائية، اعتلاج، عشوائية…

يجلي ذلك الفراغ شبه الكلي للعربية في المجال العلمي والتقني.

 

ختاماً، من نافل القول إننا في أمسّ الحاجة اليوم لِتقديم محاضرات نموذجية بالعربية تكون المرجع، وتشييد مووكات بها في مختلف المجالات. إذ لا يوجد اليوم غير مووك عربي واحد تمّ عمله في… إسرائيل!

 

(*)http://www.unit.eu/ori-oai-search/friendly/thematic-search.html/menuKey–unt/submenuKey–authors/id–abdulrab_habib