متى بدأ الإنسان؟

حبيب سروري

 

في حوارٍ جماعيٍّ، تحدّثتُ عنه في مقالٍ سابق، عن أهمِّ حدثٍ أنسنَ الإنسان، اتفق الجميع على أنه: اكتساب اللغة.

لاحظ المتحاورون (وأنا منهم) أن الحاجة للغةٍ أنسنتِ الإنسان وطوَّرت دماغه بدأتْ عندما طردَتْ التغيّراتُ البيئيّة الإنسان من «جنَّتِهِ» السماويّة في أعالي الأشجار، إلى أديم السافانا الأفريقية إثر تغيرات جيولوجية، ليمشيَ فيها بقدَمينِ عموديّين، بِعمودٍ فقريٍّ وجُمجمةٍ يتّجِهان صوب الأنجم، وبِعينينِ مُصوَّبتَين باتجاه الأفقِ المفتوح.

فالإنسان الحديث، «الذي حارتِ البريّةُ فيه»، لا يختلفُ عن كلِّ الكائنات الحية: هو محضُ ضرورةٍ لا غير، وابن قطيعة!

 

بيد أن اللغة الإنسانية الأولى بدائيةٌ جدّاً: إيماءاتٌ، ثمّ طقطقةٌ، ثمّ نواةُ مداميك لغةٍ بدون رموزٍ وخيالٍ وتجريدٍ وبناءِ جمل: قاموسٌ ضحلٌ يمكن، كما يعرف الجميع، إجراء تجاربٍ مختبريةٍ أو منزليةٍ لتعليمِ بعض الحيوانات، كالقرود، استيعابَ مدلول بعضِ كلماته!

 

لكن الإنسان لم يغدُ إنساناً حقّاً إلا عند استخدامِ الرمز والخيال، وتصميمِ معتقداتهِ التخييلية التي تستطيع وحدها فقط أن تربط الوشائج بين أرقام خيالية من البشر وتؤثر عليهم: تُجنِّدهم معاً للخير أو للشرْ، لِتشييدِ مدينةٍ ذكيّةٍ ضخمة أو لِلقيام بحربٍ لا تبقي ولا تذرْ.

ففي حين أنه منذ ولادة نواة تلك اللغة البدائية، لم تختلف كثيراً أُذْن الإنسان الحديث بيولوجياً عن أُذْنِ أجدادهِ الأول وأبناءِ عمِّهِ كبار القرود، لم يتوقّف بلعومه وحنجرته عن التغيّر والتطوّر البيولوجي لمواكبة احتياجاته اللغوية المتصاعدة. لأن “كلُّ التاريخ الاجتماعي للإنسان نضالٌ لاستحواذِ أُذْنِ الآخر!”، كما قال كونديرا.

 

ثمّ انتقل الحوار الجماعي إلى سؤالٍ جديد: متى وصلت لغات البشر لِدرجةٍ رمزية يمكن القول بعدها: بدأ الإنسانُ الحديثُ الآن؟

قال المتحاورون: لِيغمضْ كلٌّ منّا عينيه، وليتخيّلْ حياة أجدادِنا في لحظة الصفر التي يمكن أن نقول عندها: “بدأ الإنسانُ الآن!”.

 

غُصنا في الماضي طويلاً نُفتِّش عن تلك اللحظة المفصلية، كمن يبحث عن دبوسٍ في كومة قش.

قال صاحبنا الأول، وهو مغمضٌ عينيه:

أشاهدُ الآن عاشقاً وعاشقةً جالسَين قرب ينبوعِ ماء، يعومان معاً بسَدَرٍ ممتع، تحت ضوء القمر. نسماتٌ ليليّةٌ رقيقة. يتعانقان عناقَ شابّينِ في أوجِ الصبا وسعيرِ الرغبة.

ينظرُ الشاب لِلقمرِ مشذوهاً بجمالِهِ ورقَّتِه وكأنهُ يراهُ لأوّل مرّة، رغم أنه يعبدهُ ويُصلّي له كلَّ ليلةٍ في هيكل القرية.

يخطرُ ببالهِ أن يقولَ لِمعشوقتِه: «أنتِ القمر، أنتِ قمري!».

تفتحُ عينيها مندهشةً، لم تسمع يوماً عبارةً مثيرةً جميلةً كهذه. تتساءل: «أيقصدُ: أنتِ إلهي؟». تحاول أن تفهم، عبثاً! ثمّ تشعر بِنشوةٍ رقيقةٍ سريّةٍ ممتعة تسري في جسدِها وغُدَدِها لأوّل مرّة…

 

ثم دوّى صاحبنا الأول: «وُلِدَت الاستعارة، إذن وُلِدَ الإنسان!».

 

قال المُحاور الثاني، وهو مغمضٌ عينيه أيضاً:

أرى شابّاً كسولاً فضّلَ أن يجلس في المغارة في حين خرج رفاقُهُ بِحِرابِهم للصيد. يحاولُ النوم، لا يستطيع.

تراودُهُ فكرةٌ مثيرةٌ ورغبةٌ غريبةٌ في نفس الآن. يأخذ خضاباً أحمر، ينقش به على جدار المغارة، بانفعالٍ كبيرٍ، ردفاً دائريّاً يعلوهُ خصرٌ بمنحنياتٍ غير ضاوية، يعلوه نهدان ثريّان.

لم ينقشْ قبل ذلك اليوم إلا خطوطاً تقريبيّةً تشبهُ حيواناتٍ ضارية، حراباً وأدوات صيد، سباعاً كاميريائية تثير كلَّ إعجابِ وتقديسِ قبيلته.

 

لِرفاقهِ همٌّ آخر أقلُّ ارستقراطية: يختبئون بصمت في السهل المجاور بانتظار حيوانٍ يسقط في فخٍّ أعدّوهُ بمهارة.

يُحدِّقُ الشابُ بِالوركِ الذي رسمهُ وقتاً طويلا. يكتنفه الفخرُ، ونشوةٌ لم تجتاحه من قبل.

ثمّ يضطجعُ مثبِّتاً عينيه على منحنيات الردف، تداهمهُ رعشةٌ غير أليفة، يغفو، يغرق في نومٍ عميقٍ، لذيذٍ جدّاً.

 

يعودُ رفاقُهُ بِغزال، يضرمون شعلةً لِشوائها قرب باب المغارة. يلمحُون مع ارتعاش وهجِ ألْسِنةِ النار ورقصِ ظلالِها على جدران المغارة شيئاً غريباً يتلألأ على أحد الجدران.

يلاحظون في الحقيقة نقشاً جديداً يُشبهُ: خاصرة؟ نهدين؟ ورَك؟…

صخبٌ، فرحٌ ومرح. فوضى بريئة…

 

نسوا الغزال يضطرمُ ويتفحّمُ خارج المغارة وهم يحدّقونَ في الجدار، مستغرقين بالمقارنة بين نقشِ الخاصرةِ وخاصرات بنات القبيلة.

يتقاسمون ما تيسّر من لحمٍ غير محروقٍ جدّاً. ضحكٌ يملأُ المغارة، قهقهةٌ وشدٌّ وجذب…

غبطةٌ وسعادةٌ ومتعةٌ تمتزجُ بنخيرِ «بيكاسو القرية» الذي تُحلِّقُ أحلامُهُ في سماءِ الألوانِ والمنحنياتِ الساحرة. لو يدري أنه بعد أن يستيقظ، سيصيرُ نجمَ القرية، فنّانَها الأعظم، ساحرَها الأكبر.

 

يقول صاحبنا الثاني، وهو يتنفَّسُ الصعداء: «وُلِدَ عشقُ فنون المنحنيات التشكيلية الحميمة، وُلِدَ الإنسان الآن فقط!».

 

يُلاحظُ صديقنا الثالث أُمّاً يعثو بِها الحزنُ، تبكي بعنف. ينام بين يديها طفلٌ صغيرٌ توقّفَتْ أنفاسه. (وَقِيْدُ نارٍ قريبٌ منها انطفأ قبل ذلكَ بلحظات).

لماذا تشتعلُ النارُ عندما «يُنفَخُ» فيها، و «تنطفئُ» في الثقب المسدود؟ لماذا «أنطفأ» طفلُها؟ ماذا غادر جسدَهُ كي يفقد بعد ذلك مقدرتَهُ على التنفُّسِ والحياة؟…

أيقنَتِ الأمُّ أن «نفخةً» تُشعِلُ الحياةَ كانت تسكنُ جسدَ طفلِها، ثمّ غادرَتْهُ لسببٍ مجهولٍ، وطارتْ نحو «بلاد النفخات» في أعالي السماء.

 

تنظرُ الأمُّ المنكوبةُ إلى السماء بِعينَين مستجديتين، تبحث فيها عن «نفخة»، عن شيءٍ ما يُشبِهُ خيطَ دخانٍ بلا لون، آخرَ أنفاسِ طفلِها.

في معمعان هذيانها مكثتِ الأمُّ تصرخُ صيغاتٍ تُشبِهُ الأدعية. تنادي فيها «نفخات» الأجداد التي تقطنُ «بلاد النفخات» السعيدة. تتوسَّلهم رعايةَ «نفخةِ» جثمانِ ابنِها التي هاجرتْ نحو ديارهم.

 

يصرخُ صاحبنا: «وُلِدَ مفهومُ النفخة: الروح! وُلِدَ الإنسانُ الآن!». ثمّ استغرق الجميع في التأمل في كلِّ ما كلّفهُ هذا المفهوم البدائي من تبعات وكوارث في تاريخ الإنسان.

 

رأى صاحبنا الرابع شاباً وفتاةً يرسمان على الأرض مُربَّعاً تتصلُ أركانُ زواياه بخطوطٍ قُطْرِيّة. يضعان في رؤوسِ زواياه ثلاث حجارةٍ صغيرة، الأولى بعد الأخرى. (يلعبان لُعبةً اخترعاها انطلاقاً من لُعبةٍ أقلِّ تعقيداً وأكثر بدائيّة).

ثمّ يحرِّكُ كلُّ واحدٍ منهما حصاهُ بين أركان المربع ومركزِه ونقاطٍ في منتصفِ أضلاعِه.

 

يفكّران، يدفعان بعضهما بِرقَّةٍ، يُقهقهان، يُثبِّتان نظرَهما في اللعبة. يختلسان النظر لبعضِهما بابتسامةٍ ماكرةٍ تُخْفي محاولةً تلصُّصيةً لاستقراءِ ما ينوي الآخرُ لعبَهُ في النقلة القادمة (يُعجبُ كلُّ واحدٍ منهما بِلمعةِ عيني الآخر).

هما في غايةِ الإثارة والمتعة. نشوةٌ جديدة.

 

تنتصرُ الفتاةُ في الأخير (ترصُّ كلّ حجارتِها على نفس الخط في المربع). تُدوّي ضحكتُها المنتصرة من سهول السافانا المجاورة حتّى بُحيرة مانيارا.

يرمِقُها رفيقُها باستغرابٍ وإعجابٍ وغِيرة: أيُّ إلهٍ ساعدَها، جعلَها تُحرِّكُ حصاها كما يلزم، ومنحَها قوّةً سِحريّةً خفيّة؟

يدفعُ الشابُ فتاتَهُ إلى الأمام بقوّة، وكأنهُ يريدُ أن ينتصرَ بِطريقته!

تسقطُ على الأرض، رجّةٌ كهربائيةٌ عذْبةٌ تتماوجُ في ورَكِها الكرويِّ الشاب. أمواجٌ الكترونيّةٌ رقيقةٌ تعبرُ جسدَها البلاستيكيّ الطازج.

تُقاومهُ لِتضاعفَ إثارته، تسخرُ منه جهراً: «هزمتُكَ!»، تقولُها رافعةً ذراعيها…

تزدادُ، في نفس الوقت، رغبةً واستثارةً بهذا الشدِّ والجذب.

 

يتوحّدان تحت السماء دون خوفٍ أو حواجز، غير بعيدٍ من مرأى القبيلة التي لا تكترثُ كثيراً بتفاصيل سيناريوهات هذه الطقوس البيولوجية الأليفة التي تضمنُ للقبيلةِ التناسلَ والبقاءَ على الأرض.

يصرخ صاحبنا: «وُلِدَ الإنسانُ هنا الآن فقط!».