الأسلوب هو الإنسان!

حبيب سروري

 

اللغة والتفكيرُ ثنائيٌّ تربطه علاقةٌ فيزيولوجية محفورةٌ في سيليسيوم الدماغ. يمكن تشبيهُها بالطوبات التي تُبنَى بها العمارة، والتفكير بالأرضية والفضاء الذي تحتلُّه.

الجسر الذي يربط بين الطرفين: الأسلوب، أشبهُ بالتصميم الهندسي الذي يتمُّ به إخراج عمارةِ التفكير وبنائها من طوبات الكلمات.

 

اللغة وعاء الذات، كما يقول هيديجر. والأسلوبُ هو طريقة التعبير عن الذات: “الأسلوب هو الإنسان”، يقول بوفون. إذ ثمّة أكثر من طريقة مختلفة لقول الفكرة نفسها. ولكلٍّ أسلوبُه: طريقتُه الخاصةُ النابعة من طبقات الرغبة واللاوعي، حسب لاكان الذي درس هذه المقولة.

ولعل ما قاله شاعرٌ عربيٌّ قديم:

ولي صاحبٌ من بني الشيصبان              فحيناً أقولُ، وحيناً هوَ

يصبُّ في الاتجاه نفسه. حيث اعتقد العرب حينها أن نصف مصدر إلهام الشِّعر يأتي من الرغبة: “فحيناً أقولُ”، ونصفه من جِنيٍّ من قبيلة جن بني الشيصبان، يُصاحب الشاعر؛ أي اللاوعي، في لغة علماء النفس.

 

فاللاوعي الإنساني في نظرية لاكان مصمَّمٌ كاللغة: له قوانينهُ وقواعدُ بناءِ عباراته وصفاتُهُ الجوهرية.

لذلك، في اختلاف تفاصيل تعبيرنا، الذي يترجم اختلاف رغباتنا ولاوعينا، نقول نصوصاً مختلفة متباعدة، وإن سعت جميعُها لِترجمة نفس المضمون. لذلك: كم أصاب من قال: “الشيطان يكمن في التفاصيل”!

 

ما هو الأسلوب المبدع؟

هو هذا الصياد الرهيف الذي يلهث لاقتناص التيارات الكهروكيمائية، التي تحمل تفكيرنا الواعي ورغباتنا وأحلامنا اللاواعية، وهي تنتقل بين عصبونات الدماغ.

يحاول هذا الصيادُ المهندسُ الفنانُ محاكاتها والقبض عليها، وتقديمها في فساتين من كلمات، بعد تمسيدها بالإيحاءات والإشارات والرمز والاقتباسات والاستشهادات والصور البلاغية والأدوات السيريالية…

يعجن كل ذلك بتناغمٍ وانسجام، في وحدةٍ عضويّة كلها إيقاعٌ وموسيقى، وعباراتٌ نبيلةٌ تنطبع أبداً في الذاكرة الإنسانية.

 

هو باختصار: ذلك الرياضي الماهر الذي يجيد “الصعود الشاق لزقاق الإلهام الوعر”، كما يقول فيكتور هوجو.

فالأسلوب فنٌّ قبل كل شيء. فنٌّ صعبٌ يتطلّب شغلاً يوميّاً مثابراً لا يتوقّف: فلِكَي يكتبَ المرءُ نصّاً مؤثراً نقيّاً يسيل سلساً رقراقاً، يبدو طبيعيّاً صادقاً حقيقيّاً لا تظهر عليه التكلفة أو الصنعة وإن كان مسبوكاً من الخيال الخالص، أو إن أعاد صياغتَه أكثر من عشرين مرّة كما يفعل كل المبدعين الكبار، يلزمهُ المثابرة في الكتابة، الإصغاء للنص، وحسن القراءة قبل كل ذلك. فلكي تكتب جيّداً، يلزمُ أن تقرأ جيداً.

 

إذ أنّ قراءة النص الأدبي عشقٌ بطيء، وعلاقةٌ غرامية طويلة مع الكلمات وموسيقى الفقرات. حتى الصمتُ بين العبارات يحلو الإصغاء الرهيف إليه وتذوّقه. وإيقاعُ التنقيط أيضاً. كل ذلك بجانب القراءة المجردة للنص، والحوار مع الأفكار بعمق.

 

أعترف: عندما أقرأ عملاً أدبيّاً أبحث أوّلاً عن جمالية الأسلوب، أكثر ما أبحث. وعن الأفكار أيضاً بعد ذلك. أضعُ، في الكتاب الورقيّ، خطوطاً أفقية معرجنة بالقلم الرصاص تحت عبارات الصور البلاغية الجديدة المبتكرة في النص. كما أضعُ في الحاشية، على يمين فقرات النص التي تلفت انتباهي وإعجابي بأفكارها (وإن اختلفتُ معها)، خطوطاً مستقيمة تؤشر لتلك الفقرات.

وبعد نهاية قراءة الكتاب، أنسخ بخطٍّ صغير، في الصفحات البيضاء المتاخمة للغلاف الأخير، أهمّ العبارات التي وضعتُ أسفلها خطوطاً معرجنة.

قيمةُ الكتاب بالنسبة لي، وقوّةُ تأثيره، تتناسب طرداً مع عدد هذه الشخاطيط.

 

الصورُ والصيغُ الجديدة التي يبتكرها الكاتب، وإيقاع نصِّهِ وموسيقاهُ الخاصة، ترفعُ أو تخفظُ بارومتر إعجابي به. تليها نباهة أفكاره وقوّة مضامينه.

فالصور البلاغية جواهر الأسلوب فعلاً. أتذكّر أني شهقتُ يوماً عندما قرأتُ قبل عقود واستوعبتُ الصورة البلاغية لهاتين الكلمتين: “انتعلَ الظلَّ” (أي: انتصف النهار):

يقول القاموس: انتعلت المطيّ ظلالها: أي انتصف النّهار في القيظ فلم يكن للمطايا ظلّ . قال الرّاجز : “وانتعل الظلّ فكان جوربا” (تهذيب اللغة : للأزهري 2 : 399 ، ولسان العرب).

 

الأمثلة الأخرى بلا عد: تهزُّني الصورُ الصغيرة مثل: “نغمات الصمت”، “شتاء القلب”…؛ تُدوِّخ بي العبارات الكثيفة مثل: “انتظركِ بنهم”، “توأمي الروحي يتحول إلى توأمي الجسدي”…؛ تعصفُ بي الصور الشاعرية العميقة: “يجيد الإصغاء لنمو الأعشاب”، “قلبٌ يتسع لكلِّ رياض الجنة”، “أجواء الجحيم لا تحتمل التراتيل” (رامبو)…؛ يأسرُني الوصف التحبيبي الرخيم: “فستان من الموسلين بلون الياقوت ومزين بأزهار مخملية باللون نفسه”، مثلما يأسرني الوصف التكريهي الذكي: “تردعُ كلَّ استيهامٍ إيروتيكي”…

 

بالطبع، الإبداع لا يقبل النقل، لذلك يلزم دوماً ابتكار صورٍ جديدة. وعندما أقرأ الصورة البلاغية نفسها مرة ثانية، في نصٍّ أحدث، أعيب على الكاتب كسلَهُ وتكرارَهُ لإبداعات سابقيه.

لا أحب أيضاً القصفَ بالصور المركبة المبالغ بها. أتذكّرُ حينها كونفوشيوس الذي قال: تجاوزُ الحدِّ ليس أفضل من عدم الوصول إليه.

 

الأمثلة بلا عد هنا أيضاً: لا أحب هذه العبارة مثلاً: “كاتدرائية تثقب الفضاء بنبلٍ مخيف”. السبب: كلمةُ “مخيف” التي خدشت روعة ما قبلها.

لا أحب هذه الصورة: “أغمسُ أصابعي المحترقة في حنجرةِ الجليد” التي تقصف القارئ بتركيباتٍ وتداخلاتٍ متزاحمة لا تخلو من التكلف…

لا أهضم هذا البيت الشهير:

أتاك الربيع الطلق يختال باسماً        من الحسنِ حتّى كاد أن يتكلما

الذي ألبس الربيعَ قبّعةً اختيالية تزعج همس الورود وتراتيل الينابيع: “يختال باسماً من الحسنِ”، وأنهاها بنتيجةٍ لا تحترمُ حساسية من يجيد الاصغاء لِهمس الورود وتراتيل الينابيع: “كاد أن يتكلما”.

لا أحب بيت السيّاب:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السحر        أو شرفتانِ راح ينأى عنهما القمر

فالعينان الجميلتان أروع وأثرى وأفتك بكثير من شرفتين راح ينأى عنهما القمر، في كلِّ الأحوال.

 

لا أحب الصور الغامضة والنصوص المعقّدة. مع الأولى أتذكّر عبارة: “الظلمات الكثيفة ليست عمقاً”، ومع الثانية عبارة الشاعر بوالو: “ما يُصمَّمُ جيداً، يُعبَّرُ عنه بسيولةٍ رقراقة”…

أما أكثر ما أمقتهُ في الأسلوب فهو سوءُ الذوق والحذلقة و”البلطجة”. والأمثلة عن ذلك بلا عد أيضاً.

 

أكثر ما أحبّه في الأدب، مثلما أكثر ما أحبّه في الحياة: الصدق في التعبير الذي يصل عموديّاً عميقاً إلى قلبي، فأعرفُ قائلَهُ من أسلوبِه وصدقِ عباراته، وإن غاب اسمه بجانب النص، لأن “الأسلوب هو الإنسان” فعلاً.

 

فمن غير الفارس البوهيمي والشاعر اللدُنيّ، المتنبي، يستطيع أن يلخِّص بِنبلٍ ملحمةَ حياة، في بيتٍ تعبرهُ نغمةُ خفّاقة لِفعلٍ يتيمٍ: “تعرفني”، وسط سيلٍ من سوناتات الأسماء المجرّدة، انتهت بشهقةٍ أخيرة، إلهيةٍ جدّاً: “القرطاس والقلم”؟:

‫‫       الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني          والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ

 

ومن غير الشاب المتمرّد الموهوب، رامبو، يستطيع تلخيصَ ذاتهِ بأجمل من هذه الآيات؟:

هاكم، يا من تحبّون في الكاتب غياب ملكات الوصف والإرشاد، بضع صفحاتٍ شنيعةٍ من دفتري، أنا الرجيم!

كان “الغاليّون”: سالخي جلود الحيوانات ومُحرقي العشبِ، الأكثر غباءً في حقبتهم.

لديّ منهم: الوثنيّة وحبّ الخطئية؛ ـ جميع الرذائل، الغضب والفجورـ رائعٌ هو الفجور؛ وخصوصاً الكسل والكذب.

جميع المهن تفزعني. السادة والعمال جميعاً فلاحون بلا نبالة. اليد الحاملة اليراع تتساوى واليد الحاملة المحراث…