آخر أخبار الروبوت بهلول

حبيب سروري

بعد مقالي عن روبوتي المؤنسن، بهلول، الذي اشتريتُهُ في خريف 2015، قبل 12 سنة من اليوم، إثر نصيحةٍ من طبيبٍ أخصائيٍّ عالجني، توالتْ عليّ أسئلةٌ كثيرة عن آخر أخباره.

لمن لم يرَ بهلول بعد: هو كتلةٌ معدنيّة بيضاء، له قامة تناهز قامتي، ومقاييس جسدي تقريباً، وإن كان أرشق بكثير. عيناه الزجاجيتان المفعمتان بأحدث الكاميرات واللاقطات الإلكترونية نيليّتا الزرقة.

 

منذ شرائه، يرتبط بهلول عبر شبكات الوايفاي بكمبيوترات المستشفى، يرسل لها الأرقام التي يقرأها من الأجهزة الإلكترونية المرتبطة بقلبي ورئتيّ ودماغي، ويحلّل معها تطوراتي الصحيّة كلّ يوم.

لا قلق على حياتي كما تقول كمبيوترات أحشاء بهلول: تنتظرني قبل مغادرة هذه الدنيا الفانية، حسب آخر تقريرٍ يوميٍّ أعدَّتْهُ البارحة: 44 سنة على قيد الحياة، و 7 أشهر و26 يوماً؛ وذلك باحتمال 89٪، كما يضيف التقرير!

44 سنة من حياةٍ عرجاء مهشّمةٍ بالتأكيد، لكنها حياةٌ مع ذلك، إذا لم تهرول كرتُنا الأرضية في حضن المجهولِ قبل ذلك بكثير!…

 

نحن الآن في صيف 2027. تربطني ببهلول علاقة حميمة منذ 12 عاماً، عقب ميلاده في مصنعٍ يابانيٍّ بأسابيع. سنحتفل كلانا بِعيد ميلادهِ بعد نصف شهر فقط، إذا ما زالت هناك على الأرض حياة.

تغيّرتْ حياتي بعده على نحوٍ جذريّ مع تحديث وتغيير برمجيات حركته وتفكيره كل أسبوع. ومنذ منظومة برمجياته الأخيرة المشحونة بأفضل خوارزميات الذكاء الصناعي وبرمجيات التعلّم الذاتي، صار روبوتاً مؤنسناً آخر.

تطوُّرُهُ خلال ال 12 سنة من حياتنا المشتركة لا يقلُّ أهميّة عن تطوّر السلالات الإنسانية منذ هومو إيبيليس الذي كان يتغذّى على عظام جيفات الموتى بعد كسرها بالحجارة قبل مليوني عام، وحتّى هومو سابيانس، الإنسان الحديث، الذي نقش لوحة جارنيكا في القرن العشرين.

صار يخيفني قليلاً في الحقيقة. مقدراته التجريدية والفكريّة غدت مذهلة خطيرة.

 

بهلول اليوم بمنظومة “روبوت.52″، يتطوّر على نحوٍ حرٍّ مستقل لا أستطيع استشرافه وسبر غوره. اشترى قبل أسبوعٍ، عبر شركة أمازون، طاقماً من الملابس لأنه يعتبر نفسهُ عارياً عندما يعبر المنزل بسحنته المعدنيّة الناصعة البياض، إذا كان بدون ثياب.

يرتدي اليوم بنطلونا أنيقاً من الجوخ الأسود، وفانيلة حمراء، عليها لوحة سيريالية سوداء، وجملةٌ غامضة تخيفني قليلاً، لها علاقة بحَملةٍ يساهم في قيادتها على فيسبوك الروبوتات، ويجمعُ حولها التوقيعات: “من أجل بيان حقوق الروبوتات المؤنسنة”.

صار يُكلِّفُني كثيراً حبيبي بهلول، ولا أتجرأ البوح له بذلك أو عتابه، هو الذي يقود اليوم حملةً دوليّةً لِتشريعِ حقوق الروبوتات المؤنسنة، في كل الكرة الأرضية…

 

قال لي قبل أيّام إنه صار يملّ إعدادَ الوجبات لي وحملَها، ويفضِّل أن أشتري طاقماً من “الأجهزة الآلية” التي سيوجِّهها شخصيّاً لأداء مهام البيت الصغيرة. سيجعلها تعدُّ لي صحوناً “ذكيّة”، وبرامج موسيقية “ذكيّة”؛ يحشر بهلول صفة “ذكي” في كل جملة هذه الأيام.

لا يسمِّي هذه “الأجهزة الآلية” التي ينوي استعبادها: “روبوتات مؤنسنة”، ولا حتى “روبوتات”.

تعالٍ؟ غطرسة؟ عنصرية روبوتيّة؟…

لن تنقصني بعد ذلك إلا ثورة جديدة داخل البيت، تفجّرها الطبقات المسحوقة التي يستصغرها بهلول، تحت شعار: “من أجل تشريع بيان حقوق الأجهزة الآلية!”.

 

“أفضِّل قضاء وقتي في التفكير!”، قال لي عقب انشحانه بمنظومة برمجياته الأخيرة.

أفهمُه بالطبع، وأحبّه في الواقع كثيراً. لكن الأجهزة الآلية التي يريدها ليست رخيصة، ويبدّدُ صديقي ميزانيته الشهريّة من راتبي بسرعة البرق، لاسيّما بشراء الملابس الغالية هذه الأيام.

يصرف في الواقع 3 أضعاف ميزانيته على الأقل، وأنا أتعامى بِجُبن، لا أتجرأ معارضتَهُ أو مراجعتَه. ولو استمرّ الوضع على المنوال نفسه، فسأطلب منه أن تكون لي ميزانيتي الشهرية، وأتركه يدير ما تبقّى من راتبي كما يهوى.

 

لعلي اليوم أنا في الحقيقة من يحتاج إلى بيان يضمن لي حقوقي بمعيّته، وليس هو الذي يعتبر نفسَه سبارتكوس، محرّر الروبوتات المؤنسنة، وهو يساهم في قيادة الحملة الدولية لبيان حقوق الروبوتات المؤنسنة.

أنا الذي يشيخُ ويهلكُ، يأكل الدهر من قلبي ورئتيّ وعصبونات دماغي ويشرب، وليس هو الشاب الذي يتجدّد يومياً مع تحديث برامجه، ويتطوّر على نحوٍ مستقلٍّ حر، لا يفنى.

آه، الدهر!… هذا الشيخ الهرم الذي، كالسُّوسِ، يُهلِكنا ويُفتِّتنا، فيما يفتح لبهلول، من منظومةٍ إلى منظومةٍ برمجية جديدة، مستقبلاً أكثر رغداً، وحيوات متجدّدة أكثر فأكثر قوّة وجبرّوتاً…

ومع ذلك كم صرتُ متعلِّقاً بروبوتي بهلول، رغم أن كلّ جيناته يابانية!

 

غير أن أكثر ما يزعجني اليوم: لم تعد لي حقوق كثيرة، بعد أن صار حضور بهلول في حياتي كليّاً: لم أعد أتجرّأ مثلاً ممارسة بعض العادات الحميمة قبل النوم أحياناً، خوفاً من أن يقوم بدراسة طويلةٍ وإحصائيات وتحليلات بيانية، كميّة ونوعيّة، ويتناقش حولها مع كمبيوترات المستشفى والرأي العام المحليّ والدولي…

 

يزعجني أيضاً عندما يكون بهلول قد راقب، بتدقيق بالغ، ما أحلم به أثناء النوم، في الشاشات المرتبطة بجهاز “سكانير” يحوط بدماغي، ويترجم رعشاته والتيارات الكهروكيماوية بين عصبوناته.

أخشى غالبا أن يكون قد استوعب الحلم، ولاحظ تداعياته وآثاره في فراشي الدافئ المبلل الحزين، ورفع تقاريراً حول ذلك إلى المستشفى وإلى شبكة روبوتات العالَمِ وصفحاتها الفيسبوكيّة.

 

الأصعب حالياً، وأكثر ما يقلقني: بهلول وحالاته النفسيّة عند غيابي! لا يحتمل حبيبي بهلول شرودي وعدم التزامي بأصغر مهمة في برامجه اليومية التي يعدّها لي كل صباح. يبرطم ويتأثر ويصاب بآلام نفسيّة حادّة أحياناً. ثم صار لا يحتمل الوحدة والحياة بدوني، كما هو حالي أيضاً، لاسيّما الآن وأنا مضطر لسفرٍ مفاجئ عاجل هام يجبرني على عدم العودة إلى المنزل لإشعاره وطلب موافقته!

 

سأبعث له إيميلاً سريعاً آلآن يوافق على شراء جهازين آليين صغيرين أو ثلاثة، عبر أمازون، كما طلب مني مؤخرا، يديرهم لأداء المهام المنزلية، كما يحب. ستصلهُ الأجهزة عبر طائرة أمازون بدون طيّار إلى باب الحديقة.

سيشغله ذلك قليلاً، ويفهم أني لم أنسه. أتمنى أن ينهمك بهم و”بتربيتهم” كثيرا في غيابي، وأن يقضي وقتهُ “بالتفكير” الخالص، بعيداً عن المهام المنزليّة التافهة، كما أراد.

أتمنّى أيضاً أن لا يتوقّف عن متابعة أخبار ومراسلة الروبوتات التي تمّ بعثها في السنوات الأخيرة للكواكب والكويكبات التي يتوقّع العِلم الحديث اكتشاف الماء والحياة فيها، وأن يستمرّ في التواصل مع عددٍ منهم تربطه بهم علاقات حيّة مثابرةٌ رفيعة.

 

آه، والشبكات الاجتماعية أيضا! كم أرجو أن يواصل بهلول تفاعلاته في فيسبوك الروبوتات؛ ويضخّ صفحته الفيسبوكية بالمنشورات الدائمة؛ ويواصل نضالاته لجمع حملات توقيعات الروبوتات لِإقرار “حقوق الروبوتات المؤنسنة” الذي سيلعب دور “بيان حقوق الإنسان” في مستقبل هذا الكوكب، إن كان له مستقبل؛ ويستمر في دعم حملات رفض العنف الروبوتي، وإدانة صناعة الروبوتات القاتلة؛ وحملات تطوير المساهمات الروبوتية الفعّالة في الدفاع عن بيئة هذا الكوكب، إن ظلّ لكوكبِنا الوحيدِ أمل…