لغة آدم!

حبيب سروري

ثمّة سؤالٌ ممتعٌ قادني للحديث هنا عن أصل اللغة ونشأتها، برزَ في حوارٍ جماعيٍّ شاركتُ فيه: “ما هو أعظم حدثٍ غيّرَ تاريخ الإنسان؟”.

ردّ أحد المساهمين سريعاً: “الكمبيوتر!”.

ردّ آخرُ، يشعر بالاختناق إذا لم يكن مرتبطاً بشبكة الإنترنت، ويرى أننا في عصرٍ صارت فيه الشبكةُ أهمَّ من الكمبيوتر، إذ بها يستطيع عمل كل شيء ولو بالهاتف أو الآيباد: “الإنترنت!”.

ردّ آخر: “لا، الأهم قطعاً: الكهرباء، أجمل بنات القرن 19! ما الإنترنت والكمبيوتر بدونها؟”.

توالت الردود تُعدِّدُ منعطفاتٍ جوهريةً حاسمة، تغوص في الماضي أكثر فأكثر. قال أحدنا: “تدجين الكلب قبل 150 ألف عام هو الأهم. حمى الكلبُ بشراسةٍ ووفاء الإنسانَ المنبوذ في عراء أديم السافانا الأفريقية وساعده على الاصطياد. كان الإنسان الأوّل يُدين له بكل شيء. يقيم حفلات تأبينٍ له عند الموت كما يفعلُ لِذويه. أمّا بشريةُ اليوم فقد انقطع من جبينها عِرق العرفان بالجميل، ولم تحتفل بعدُ بمرور1500 قرنٍ على صداقة الإنسانِ والكلب!”.

قال آخر: “اكتشافُ النار قبل 800 ألف سنة. بها واجه الإنسان الضواري، وحسّن لاحقاً ووسّع من قائمة مأكولاته، ولها فوائد لا تعدّ ولا تحصى!”

 

كان هذا السؤال الممتع قد شغلني قبل الحوار الجماعي بزمن.

ثمّة، في الحقيقة، حدثٌ أراه في أقصى الجوهرية، تفوق أهميته كل الأحداث التي ذكرها أصدقائي، ولولاه لما كان الإنسان إنساناً بكلِّ بساطة.

 

قبل التطرّقِ له، سؤالٌ تمهيديٌّ آخر: ما لغةُ “الإنسانِ الأوّل”، أو “لغة آدم”، كما تسمّيها مجازاً بعض الكتب العلمية.

بتحديدٍ أدق: ما لغةُ الرعيلِ الأوّلِ من بشر السلالات الإنسانية القديمة؟ أي: بشرُ شجرة السلالات التي انتقلتْ فروعُها من نوعٍ إنسانيٍّ إلى نوع، من «آدمٍ لآدم» كما قال أبو العلاء المعرّي بصيغةٍ حلزونيّةٍ عبقرية استشعرَتْ “شجرة الأوادم”، قبل عشرة قرون من اكتشافات حفريات العلم الحديث:

جائزٌ أن يكونَ آدمُ هذا                  قبلَهُ آدمٌ على إثرِ آدم!

 

بعض أهم فروعها التي تؤكد صواب حدسِ شاعر الفلاسفة، المدجَّجِ بالحواس السادسة والسابعة والثامنة:

1) هومو ايبيليس: الإنسان الحاذق، الذي استخدم الحجارة الحادّة كآلاتٍ بدائية للدفاع عن النفس والهجوم على الحيوانات الضارية، قبل أكثر من مليوني عام.

2) هومو اريكتوس: الإنسان المنتصب، الذي صنع الفؤوس قبل حوالي مليون عامٍ ونصف.

3) ثمّ مؤخراً جدّاً هومو نارانس: الإنسان الحاكي، الذي بدأ يسردُ ويخترعُ أوّل القصص البدائية بنواةِ لغةٍ جنينية من كلماتٍ متراصّة بدون بناءِ جمل، بعد أن تطوّرَتْ وتوسَّعَتْ مناطقُ اللغة في عصبونات دماغه… لعلّهُ سلفُ شهرزاد الذي اخترع الصيغة السحريّة الخالدة: «كان يا ما كان» وأخواتها.

قبل الوصولِ إلى بيت القصيد، قبل حوالي خمسين ألف عامٍ فقط:

4) هومو سابيانس: الإنسان الحديث، الذي يُتوِّجُ رأسَهُ نفسُ دماغِ إنسان اليوم (ضعف حجم دماغ ايبيليس)، بِنفسِ جغرافيةِ عصبوناته، بكلِّ ملَكاتهِ التخيُّلِيّةِ واللغوية الراقية، وبكلِّ قلقهِ الوجوديِّ وتفكيرهِ المحموم، وبكلِّ هوسهِ باختراع ألفِ سيناريو وسيناريو تُفسِّرُ بدايةَ الحياةِ على الأرض ومآلَ الإنسان بعد الموت.

 

أهم حدثٍ في تاريخ الإنسان، في رأيي، اندلع بين منعطفين تاريخيين مفصليين سبقا تدجين الكلب واكتشاف النار بأكثر من مليون سنة.

الأوّل: لحظة استخدام هومو إيبيليس الحجارة كآلات بدائية، والثاني: لحظة استخدام هومو اريكتوس للفؤوس.

ما هو هذا الحدث الواحد الأوحد، الألفا والأوميجا، جذر الجذر، وشرارة بدء الأنسنة؟…

 

لأُطيلَ التشويقَ قليلاً!… يلزم التذكير أوّلاً: قبل هاذين المنعطفين الحاسمين بملايين السنين، كان أجدادُنا الأول يعيشون في أطوار بدائية جداً فوق أشجار أفريقيا، قبل أن يحلّ على الأرض جفافٌ هائلٌ لحق عصراً جليديّاً عمّ المعمورة.

أدّى الجفاف رويداً رويداً إلى استبدال غابات شرق أفريقيا بأديم السافانا، وإلى هبوط أجدادنا من أشجارهم الذاوية إلى الأرض. فيما ظلَّت غابات غرب أفريقيا مأوىً لكبار القرود التي استمرت تسكن أعاليها، وتعيش وتتطوّر بشكلٍ مختلف عن أجدادنا الذين هبطوا من “جنّة” أعالي أشجارهم إلى الأرض، لِيبدأوا حياةً مختلفة في عشٍّ جديد…

 

صارت السافانا حضنَ جدِّنا الأول، احتاج فيها إلى المشي بساقين، والانتصاب لرؤية الضواري البعيدة وما وراء الأكمات، ولرمي الحجارة بشكلٍ أفضل.

خلال بضعة ملايين سنة، انتصبَ ظهرُه رويداً رويداً، كما تكشف الحفريات المتعاقبة. تمكّن من المشي أفضل فأفضل على قَدَمين فقط، بِفضلِ تلاؤمِ بُنيانِ وميكانيكا مفاصلِهِ وجسدِهِ مع بيئتهِ الجديدة، أكثر من غيره!…

احتلَّ دماغُهُ العموديُّ على جسدِهِ موضعاً متميّزاً مؤهلاً لأن تنموَ فيه مساحاتٌ وملَكاتٌ جديدة، تتواصلُ وتنضمُّ مع بعضها.

باختصارٍ شديد: تأنسن جدُّنا رويداً رويداً، أكثر فأكثر…

 

لم تكن لِجدِّنا قبل المنعطفين التاريخيين الجوهريين لغةٌ. لم يختلف بذلك عن بقية الحيوانات وهي تتبادل إشارات صوتية عند الشعور بالخطر جرّاء رؤية أو سماع حيوانٍ مفترس. كانت تلك النبرات كلَّ قاموسهِ اللغويِّ الغريزي الذي لا حاجة لتعلِّمهِ كما يتعلم الطفل اللغةَ اليوم.

 

إذ هو ليس بقاموس كلمات، وإنما منظومة تواصلٍ غريزيةٍ مغلقة، لا علاقة لها بلغات الإنسان الحديث، المفتوحات إلى ما لا نهاية، واللواتي يتجاوز عددهنّ 5000 لغة يلزم تعلّمهن واكتسابهن.

أي: إشارات فطريّة، مثلها مثل منظومة التواصل لدى النحل والنمل. أو مثل صوتٍ معروف للقردة اليوم، مدلوله: “هنا أسد”، وآخر “هنا ثعبان”…

المثير جدّاً: عند تسجيل الصوت الأوّل على شريط، وفتحِهِ أمام مجموعة قردة في الغابة، ينُطّون بهلع إلى أعلى الشجر للاختباء! لكنهم لا ينُطّون إليها عند الصوت الثاني، بل تتسمّرُ نظراتهم في الأرض، وإن لا يقلُّ هلعهم عند سماعه!

 

رحلة تطوّر اللغة الإنسانية موضوعٌ لا حدّ لثرائهِ وغِناه، يُكثِّف كل تاريخ الإنسان.

أقصدُ: رحلتها منذ النبرات الغريزية: “هنا أسد!”، وحتّى قصيدة “فصل في الجحيم” لرامبو، و”الجدارية” لمحمود درويش…

رحلةٌ ساحرةٌ مدهشة، لولاها لما سمعنا شاعراً يقول لنا ذات يوم: “جاءت مُعذِّبتي في غيهبِ الغسقِ”؛ يبوح لنا بسؤالهِ لِ”معذِّبتهِ”: “أما خشيتِ من الحرّاسِ في الطرقِ؟”؛ قبل إجابتها المذهلة ودمعُ العينِ يسبقها: “من يركب البحر لا يخشى من الغرقِ”، وما يلي الحوار من فضاءٍ إيحائيٍّ حميم، صمتَ عن سردهِ الشاعرُ ليترك القارئَ يتصوّرهُ مرتعشاً ملتهباً كما يحب…

أدعو القارئ لأن يقضي أسبوعاً في التأملِ في هذه الرحلة وتصوّرِ مراحلها، قبل سرد شذرات من أهمّ عتباتها في مقالٍ مقادم.

 

ليتأمّلَ تحديداً في يوميات أجدادنا وظروفِ حياتهم أثناء المنعطفين التاريخيّين، وحاجتِهم العضوية بينهما لتجاوز منظومة الاتصالات الحيوانية الغريزية، وكيف أدّى ذلك إلى اندلاعِ نواةِ ومداميكِ لغةٍ بدائيةٍ جداً، هي ما أعتبرهُ: أعظمَ وأهمَّ وأسمى حدثٍ في تاريخ الإنسان!

 

فاللغةُ مفتاح الطبيعة الإنسانية: كل ما يميّز الإنسان على سائر الحيوانات مسراهُ ومجراهُ اللغة: حديثهُ اليومي، كتاباتهُ وقراءتُه، علاقاتهُ بالآخر وبنفسِه، تفكيرهُ، وعيهُ ولا وعيه…

ما الأحداث التي ذكرها أصدقائي إن لم تكن ثمّة لغةٌ إنسانية للتفكير بها واكتشافها؟

ما الانفجار الكوني الكبير (البيغ بونغ) قبل 13.7 مليار عام، وما بدء تشكّل الجزيئات العضوية من المواد اللاعضوية في الأرض قبل 3.8 مليار عام، أي: بدء البيولوجيا والحياة، وما اكتشاف وجود الماء على المريخ قبل أسابيع فقط، إن لم تكن ثمّة لغة للحديث عنهم جميعاً؟

 

 

 

في البدءِ كانت كلمةُ ميام ـ ميام!

حبيب سروري

 

في حوارٍ جماعيٍّ، تحدّثتُ عنه في مقالٍ سابق، عن أهمِّ حدثٍ أنسنَ الإنسان، اتفق الجميع على أنه: اكتسابُ اللغة. غير أن سؤال “كيف نشأت اللغة وتطوّرت، لا سيّما في مراحلها الجنينية؟”، كما لاحظ المتحاورون، من أكثر الأسئلة العلمية حساسية، ومن أصعبها أيضاً، لأن الكلمات الشفوية لم ترتسم آنذاك بما يُوثِّقها.

 

اعتبرَ مجمعُ اللغويين الفرنسيين في 1866 الحديثَ عن “أصل اللغة” موضوعاً شديد الخطورة (Top secret) ومنع، في البند الثاني من ميثاقه، نشر أية دراسةٍ عنه!

نحن الآن في القرن الواحد والعشرين. المختبرات العلمية المتخصصة به، والكتب والدراسات عنه بلا عد، أحدُ أهمِّها: “لغة آدم” لديريك بيكرتون الذي سأسرد حكياً هنا بعض خلاصاته.

 

شغلَ سؤال اللغة الأولى فلاسفة العرب أيضاً. وها هو أبو العلاء المعري في رواية “رسالة الغفران” يدحض بالمنطق والتفكيك اللغوي والنقد العقلاني ادّعاءات أن سيّدَنا آدم كان يتكلم العربية!:

البطل الرئيس لرواية أبي العلاء، ابن القارح، يزور الجنة، يقابل فيها سيّدَنا آدم ويسأله عن أبيات شعرٍ منسوبةٍ له:

 

((…فيلقى آدمَ، عليه السلام، في الطريق فيقول: يا أبانا، صلّى الله عليك، قد رويَ عنك شِعرٌ منه قولك:

نحن بنو الأرضِ وسكّانُها                     منها خُلِقنا وإليها نعُودْ

والسُّعدُ لا يبقى لأصحابِهِ              والنحسُ تمحوهُ ليالي السُّعود))

 

يُعبِّر آدم عن اتفاقهِ معهما، لكنه يدحض أنه من قالهما: “لم أسمع بهما حتّى الساعة!”، قبل أن يبرهن ذلك بتفكيكٍ وتحليلٍ منطقيٍّ إفلاطونيٍّ أنيقٍ لهما، لا يخلو من السخرية.

((فيقول آدم: إن هذا القول حق، وما نطقهُ إلا بعضُ الحكماء، ولكني لم اسمع بهِ حتّى الساعة!

فيقول ابن القارح: لعلّك يا أبانا قلتَهُ ثمّ نسيت! فقد علمتُ أن النسيان متسرِّعٌ إليك، وحسبكَ شهيداً على ذلك الآية المتلوّة في فرقانِ محمّد، صلى اللهُ عليه: «ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي، ولم نجد له عزماً!»…

يقول آدم، صلّى اللهُ عليه وسلّم: «أبيتم إلا عقوقاً وأذيّة. إنما كنتُ أتكلّمُ العربية وأنا في الجنّة، فلّما هبطتُ إلى الأرض نُقِلَ لِساني إلى السريانية، فلم أنطق بغيرِها إلى أن هلكتُ، فلمّا ردّني الله، سبحانه وتعالى، إلى الجنّة عادت عليّ العربية!…

فأي حينٍ نظمتُ هذا الشِّعر: في العاجلة أو الآجلة؟… والذي قال ذلك يجبُ أن يكون قاله في الدّار الماكرة، ألا ترى قوله: «منها خُلِقنا وإليها نعود»؟ فكيف أقول ذلك ولساني سرياني؟…

وأما الجنّة، قبل أن أخرجَ منها، لم أكن أدري بالموت فيها. وأما بعد رجوعي إليها فلا معنى لقولي: «وإليها نعود» لأنه كذبٌ لا محالة، ونحن معشر أهلِ الجنّة خالدون مخلّدون!))

 

لِنموضعَ أنفسَنا الآن بين منعطفَين حاسمَين عرفهما تاريخ الإنسان. الأوّل: لحظة استخدام هومو ايبيليس الحجارة كآلات بدائية، قبل أكثر من مليونين عام. والثاني: لحظة استخدام هومو اركتوس للفؤوس، قبل حوالي مليون عام ونصف.

 

في المنعطف الأول، كان الإنسان كائناً ضعيفاً لا قيمة له في هذه المعمورة، اللهمّ أنه كان يجيد استخدام الحجارة الحادّة، ليس لكسر بقايا عظام الحيوانات الميتة فقط كما يكسر القردة بها بعض الثمار، بل أيضاً للدفاع عن النفس والهجوم أحياناً على الوحوش الضارية.

 

كان غذاؤه النبات والحيوانات الصغيرة التي يصطادها، وبقايا بقايا الفيلة والحيوانات الضخمة الميتة التي تلتهمها الضواري، وتترك له ما تبقّى من عظامها الكبيرة التي لا تستطيع مصّ نخاعها.

كان جدّنا يتوجّه حينذاك مع عائلتهِ إليها، ليكسر بأحجاره الحادّة تلك العظام. يلتهمُ بِنَهمٍ مُخَّها الذي ساعده على تطوير بنيته الجسدية ودماغه.

لم يكن جدُّنا حينها يمتلك لغةً متميّزةً عن منظومة الاتصالات الحيوانية الغرائزية: نبراتٌ وإشاراتٌ للإشعار بالخطر: “هنا أسد!”، “هنا ثعبان!”، وهلمّ صرخا…

 

أما بعد حوالي نصف مليون عامٍ من ذلك، فقد كان الإنسانُ في عصرٍ تاريخيٍّ جديد، متطوِّرٍ جداً، أجاد فيه صنعَ فؤوسٍ بدائية.

لم يعد غذاؤه فيه بقايا بقايا الحيوانات الضخمة الميتة، ولكن بقاياها الأرستقراطية: يلتهمها قبل الحيوانات الضارية، كما أكدت الحفريات وهي تكشف انطباع آثار ADN الإنسان عليها، قبل غيره.

كان يصل إلى تلك الحيوانات الميّتة بمجاميع إنسانية كبيرة (على عكس زمن جدِّه ايبيليس)، لِيهجم جميعُهم على جثّة فيل الماموت الميّت.

 

يصرخون بصوتٍ طرزانيٍّ مشتركٍ يرعب الوحوش، ويرمونهم بالحجارة الحادّة لإبعادهم عن المائدة، فيما تقطع النساءُ بالفؤوس أفضلَ أضلاع الماموت. ثمّ يهربون بغنيمتهم سريعاً، بعد أن يتركوا بذكاء شذرات لحوم للحيوانات الضارية حتّى لا تلاحقهم.

يعودون هكذا إلى كهوفهم للاحتفال بما جنوه، وقضاء إجازةٍ سعيدةٍ بضعة أيّام.

 

بين هاذين المنعطفين التاريخيين نشأت نواة المداميك الأولى للغة الإنسانية:

فلقد احتاج الإنسان إلى تطويع وتوظيف قطيعٍ أوسع من البشر في التعاون معه للهجوم على غنيمة الماموت الميت، عندما يراها وهو يجول في التخوم المحيطة بِسكنهِ بحثاً عن الغذاء.

احتاج لأن يوصل لرفاقه شفوياً معلومات أوليّة تتجاوز كمّاً ونوعاً الحدود التعبيرية لِمنظومة التواصل الغريزية الحيوانية: “هنا، الآن، خطر”، وتوصيل رسائل مثل: “هناك، بعيداً، ماموتٌ ميت. يلزمنا التعاون للانقضاض عليه!”، ولِيقودهم إلى الكنز، ولِيجذب إعجاب الإناث بذلك، ولِيخطط معهم جميعاً عمليةَ الهجوم على المائدة، والانسحاب السريع الآمن منها بأدسم الغنائم…

 

لا أدري كيف وماذا كانت كلمة الإنسان الأولى: إشارةٌ صوتية لتقليد الماموت؟ ميام ـ ميام؟ نبرةٌ ما تعني: “مائدة ماموت” تناقلتها الأجيال بالتعلم، وليس بالغريزة؟…

ساعد هذا القاموسُ الجديدُ، الضئيلُ جداً، الإنسانَ على حياةٍ أفضل. تحسّنتْ بفضله ظروفُ حياته وملَكاتُه الجسدية أيضاً، ومكانتُه في سوق التطوّر والانتقاء. وأصبح ذلك القاموس مع مرور الزمن الثقبَ الذي انفتح في جدار منظومة التواصل الحيواني الغريزية، وقاد إلى تغيّرات جينية ودماغية تواكب نشوء بدايات اللغات الإنسانية.

 

لمدة مليون عامٍ بعد ذلك، لم يتطوّر الإنسان إلا ببطءٍ ما يزال يثير بشدّة تساؤلات الباحثين وحيرتَهم: لم يصنع شيئاً يستحق الذكر غير تحسين فؤوسه، قبل أن تنتهي نومة “أهل الكهف” هذه، التي دامت حوالي مليون عام، بنقلةٍ نوعية، عندما اخترع الرماحَ والحرابَ المنتهية بحجر الصوان السلكيِّ الرسوبيِّ الحاد.

 

عكست بنيةُ هذه الأسلحة الفتاكة الجديدة تطوّراتٍ شاسعةً فذّة في مقدرات الإنسان الفكرية والتخييلية، وفي لغته الوليدة بالضرورة.

يكفي أن نتصوّر ماذا يدور في دماغِ الإنسان من تساؤلات وتخييل وخطط، وهو يُصمِّم الحراب والرماح.

بها يستطيع مع رفاقه التسكَّعَ في الفلوات النائية، ومباغتةَ فِيلِ ماموتٍ حيٍّ هذه المرّة. يهجمُون عليه بالمشاعل والحراب من كلِّ الجهات، وفي نفس الثانيةِ كبرقٍ خاطف. ينقضُّون عليه أمام الضباع والسباع الخائفة من عددهم ونيرانهم ورماحهم، ثمّ يبدأُون أسبوعاً من الولائمِ والإجازاتِ الجماعيّة، يمارِسُون فيه السعادة حتى الثمالة، وكثيراً من الرقصِ الجماعيِّ الليلي، والفنونِ الميتافيزيقيةِ التي ينقشُونها في جدرانِ مغارةِ الجبل المجاور.

 

تطوّرَ الإنسان بعد ذلك بشكلٍ أسرع فأسرع، قبل أن يصل إلى صيغتهِ الأخيرة: الإنسان الحديث، بكلِّ ثرثراتهِ ودردشاتهِ ونميمتهِ التي لم تتغيّر اليوم بالطبع في عصر الإنترنت:

يكفي قراءة كل إيميلات إنسان اليوم، ومنشوراته الفيسبوكية، لندرك كم يحتاج هذا الحيوان الثرثار للفضفضة كما يحتاج للماء والهواء، هو الذي يسبكُ في ذهنهِ أو يلفظُ منذ 50000 عاماً حوالي 15000 كلمة يومياً!

 

 

متى بدأ الإنسان؟

حبيب سروري

 

في حوارٍ جماعيٍّ، تحدّثتُ عنه في مقالٍ سابق، عن أهمِّ حدثٍ أنسنَ الإنسان، اتفق الجميع على أنه: اكتساب اللغة. حيث لاحظ المتحاورون (وأنا منهم) أن الحاجة للغةٍ أنسنتِ الإنسان وطوَّرت دماغه كانت قد بدأت عندما طردَتْ التغيّراتُ البيئيّة الإنسان من «جنَّتِهِ» السماويّة في أعالي الأشجار، إلى أديم السافانا الأفريقية إثر تغيرات جيولوجية، ليمشيَ فيها بقدَمينِ عموديّين، بِعمودٍ فقريٍّ وجُمجمةٍ يتّجِهان صوب الأنجم، وبِعينينِ مُصوَّبتَين باتجاه الأفقِ المفتوح.

فالإنسان الحديث، «الذي حارتِ البريّةُ فيه»، لا يختلفُ عن كلِّ الكائنات الحية: هو محضُ ضرورةٍ لا غير، وابن قطيعة!

 

غير أن اللغة الإنسانية الأولى بدائيةٌ جدّاً، بدون رموزٍ وخيالٍ وتجريدٍ وبناء جمل: قاموسٌ ضحلٌ يمكن إجراء تجاربٍ مختبريةٍ لتعليمِ بعض الحيوانات فهمَ بعض كلماته!

فالإنسان لم يصر إنساناً إلا عند استخدامِ الرمز والخيال، وتصميمِ معتقداتهِ التخييلية التي تربط الوشائج بين أرقام خيالية من البشر، وتُجنِّدهم معاً للخير أو الشر، لتشييدِ مدينةٍ ذكيّةٍ ضخمة أو للقيام بحربٍ لا تبقي ولا تذر.

 

فمنذ ولادة نواة تلك اللغة البدائية لم تختلف كثيراً أُذْن الإنسان بيولوجياً عن أُذْنِ سلالاته القديمة، لكن بلعومه وحنجرته لم يتوقّفا عن التغيّر والتطوّر لمواكبة احتياجاته اللغوية المتصاعدة.

وكما قال كونديرا: “كلُّ التاريخ الاجتماعي للإنسان نضالٌ لاستحواذِ أُذْنِ الآخر!”.

 

ثمّ انتقل الحوار الجماعي إلى سؤالٍ جديد: متى وصلت لغات البشر لِدرجةٍ رمزية يمكن القول بعدها: بدأ الإنسانُ الحديثُ الآن؟

قال المتحاورون: لِيغمضْ كلٌّ منّا عينيه، وليتخيّلْ حياة أجدادِنا في لحظة الصفر التي يمكن أن نقول عندها: “بدأ الإنسانُ الآن!”.

 

غُصنا في الماضي طويلاً نُفتِّش عن تلك اللحظة المفصلية، كمن يبحث عن دبوسٍ في كومة قش.

قال صاحبنا الأول، وهو مغمضٌ عينيه:

أشاهدُ الآن عاشقاً وعاشقةً جالسَين قرب ينبوعِ ماء، يعومان معاً بسَدَرٍ ممتع، تحت ضوء القمر. نسماتٌ ليليّةٌ رقيقة. يتعانقان عناقَ شابّينِ في أوجِ الصبا وسعيرِ الرغبة.

ينظرُ الشاب لِلقمرِ مشذوهاً بجمالِهِ ورقَّتِه وكأنهُ يراهُ لأوّل مرّة، رغم أنه يعبدهُ ويُصلّي له كلَّ ليلةٍ في هيكل القرية.

يخطرُ ببالهِ أن يقولَ لِمعشوقتِه: «أنتِ القمر، أنتِ قمري!».

تفتحُ عينيها مندهشةً، لم تسمع يوماً عبارةً مثيرةً جميلةً كهذه. تتساءل: «أيقصدُ: أنتِ إلهي؟». تحاول أن تفهم، عبثاً! ثمّ تشعر بِنشوةٍ رقيقةٍ سريّةٍ ممتعة تسري في جسدِها وغُدَدِها لأوّل مرّة…

 

ثم دوّى صاحبنا الأول: «وُلِدَت الاستعارة، إذن وُلِدَ الإنسان!».

 

قال المُحاور الثاني، وهو مغمضٌ عينيه أيضاً:

أرى شابّاً كسولاً فضّلَ أن يجلس في المغارة في حين خرج رفاقُهُ بِحِرابِهم للصيد. يحاولُ النوم، لا يستطيع.

تراودُهُ فكرةٌ مثيرةٌ ورغبةٌ غريبةٌ في نفس الآن. يأخذ خضاباً أحمر، ينقش به على جدار المغارة، بانفعالٍ كبيرٍ، ردفاً دائريّاً يعلوهُ خصرٌ بمنحنياتٍ غير ضاوية، يعلوه نهدان ثريّان.

لم ينقشْ قبل ذلك اليوم إلا خطوطاً تقريبيّةً تشبهُ حيواناتٍ ضارية، حراباً وأدوات صيد، سباعاً كاميريائية تثير كلَّ إعجابِ وتقديسِ قبيلته.

 

لِرفاقهِ همٌّ آخر أقلُّ ارستقراطية: يختبئون بصمت في السهل المجاور بانتظار حيوانٍ يسقط في فخٍّ أعدّوهُ بمهارة.

يُحدِّقُ الشابُ بِالوركِ الذي رسمهُ وقتاً طويلا. يكتنفه الفخرُ، ونشوةٌ لم تجتاحه من قبل.

ثمّ يضطجعُ مثبِّتاً عينيه على منحنيات الردف، تداهمهُ رعشةٌ غير أليفة، يغفو، يغرق في نومٍ عميقٍ، لذيذٍ جدّاً.

 

يعودُ رفاقُهُ بِغزال، يضرمون شعلةً لِشوائها قرب باب المغارة. يلمحُون مع ارتعاش وهجِ ألْسِنةِ النار ورقصِ ظلالِها على جدران المغارة شيئاً غريباً يتلألأ على أحد الجدران.

يلاحظون في الحقيقة نقشاً جديداً يُشبهُ: خاصرة؟ نهدين؟ ورَك؟…

صخبٌ، فرحٌ ومرح. فوضى بريئة…

 

نسوا الغزال يضطرمُ ويتفحّمُ خارج المغارة وهم يحدّقونَ في الجدار، مستغرقين بالمقارنة بين نقشِ الخاصرةِ وخاصرات بنات القبيلة.

يتقاسمون ما تيسّر من لحمٍ غير محروقٍ جدّاً. ضحكٌ يملأُ المغارة، قهقهةٌ وشدٌّ وجذب…

غبطةٌ وسعادةٌ ومتعةٌ تمتزجُ بنخيرِ «بيكاسو القرية» الذي تُحلِّقُ أحلامُهُ في سماءِ الألوانِ والمنحنياتِ الساحرة. لو يدري أنه بعد أن يستيقظ، سيصيرُ نجمَ القرية، فنّانَها الأعظم، ساحرَها الأكبر.

 

يقول صاحبنا الثاني، وهو يتنفَّسُ الصعداء: «وُلِدَ عشقُ الفنونِ التشكيلية الجميلة، وُلِدَ الإنسان الآن فقط!».

 

يرى صديقنا الثالث شيخاً قابعاً فوق أكمةٍ صغيرة ينظرُ فجأةً باتجاهِ شجرةٍ في أطرافِ الغابة المواجهة.

يقرعُ قلبُهُ خوفاً: ثمّة ضبعان خلف الشجرة لا يراقبانه بودّ. يسمع وراءهُ أيضاً حركةً مثيرةً تزحفُ بين الأعشاب، مجهولةَ المصدر، تتقدّمُ نحوه ببطءٍ وانتظام، بانتظامٍ قاتلٍ يُريعه أكثر فأكثر.

 

اللعنة، في أي اتجاهٍ يهرب؟… يشزرُ السماءَ بنظرةٍ خاطفة. كالعادةِ: لا رد!

لا وقت أمامه: أعين الضبعين تتسمّرُ باتجاهه، تهرع لتمزيقه. شوكةُ أنياب شدقِ الثعبان تتدلّى، تنتصب، تُرفرِفُ نحوه بِتذبذبٍ محمومٍ مسعور.

 

يشعرُ الشيخُ فجأة بالقرَفِ من هذه الحياة المضنية: خرج بحثاً عن لُقمةٍ لأطفاله الصغار، أم خرج ليصبح هو ذاته لقمةً لوحوشٍ كاسرةٍ لا تميلُ للتفاوضِ عند الجوعِ أو الشعورِ بالخطر؟

تغادرُهُ دمعتان. يبكي ضُعفَهُ الجذريّ بحرارة، يبكي بسرعةٍ تفوقُ سرعةَ جَرْيِه…

 

يقول صاحبنا: «وُلِدَ الحزن، وُلِدَ الإنسان الآن!».

 

يُلاحظُ صديقنا الرابع أُمّاً يعثو بِها الحزنُ، تبكي بعنف. ينام بين يديها طفلٌ صغيرٌ توقّفَتْ أنفاسه. (وَقِيْدُ نارٍ قريبٌ منها انطفأ قبل ذلكَ بدقائق).

لماذا تشتعلُ النارُ عندما «يُنفَخُ» فيها، و «تنطفئُ» في الثقب المسدود؟ لماذا «أنطفأ» طفلُها؟ ماذا غادر جسدَهُ كي يفقد بعد ذلك مقدرتَهُ على التنفُّسِ والحياة؟…

أيقنَتِ الأمُّ أن «نفخةً» تُشعِلُ الحياةَ كانت تسكنُ جسدَ طفلِها، غادرَتْهُ لسببٍ مجهولٍ، وطارتْ نحو «بلاد النفخات» في أعالي السماء.

 

تنظرُ الأمُّ المنكوبةُ إلى السماء بِعينَين مستجديتين، تبحث فيها عن «نفخة»، عن شيءٍ ما يُشبِهُ خيطَ دخانٍ بلا لون، آخرَ أنفاسِ طفلِها.

في معمعان هذيانها مكثتِ الأمُّ تصرخُ صيغاتٍ تُشبِهُ الأدعية. تنادي فيها «نفخات» الأجداد التي تقطنُ «بلاد النفخات» السعيدة. تتوسَّلهم رعايةَ «نفخةِ» جثمانِ ابنِها التي هاجرتْ نحو ديارهم.

 

يصرخُ صاحبنا: «وُلِدَ مفهومُ الروح! وُلِدَ الإنسانُ الآن!».

 

رأى صاحبنا الخامس شاباً وفتاةً يرسمان على الأرض مُربَّعاً تتصلُ أركانُ زواياه بخطوطٍ قُطْرِيّة. يضعان في رؤوسِ زواياه ثلاث حجارةٍ صغيرة، الأولى بعد الأخرى. (يلعبان لُعبةً اخترعاها انطلاقاً من لُعبةٍ أقلِّ تعقيداً وأكثر بدائيّة).

ثمّ يحرِّكُ كلُّ واحدٍ منهما حصاهُ بين أركان المربع ومركزِه ونقاطٍ في منتصفِ أضلاعِه.

 

يفكّران، يدفعان بعضهما بِرقَّةٍ، يُقهقهان، يُثبِّتان نظرَهما في اللعبة. يختلسان النظر لبعضِهما بابتسامةٍ ماكرةٍ تُخْفي محاولةً تلصُّصيةً لاستقراءِ ما ينوي الآخرُ لعبَهُ في النقلة القادمة (يُعجبُ كلُّ واحدٍ منهما بِلمعةِ عيني الآخر).

هما في غايةِ الإثارة والمتعة. نشوةٌ جديدة.

 

تنتصرُ الفتاةُ في الأخير (ترصُّ كلّ حجارتِها على نفس الخط في المربع). تُدوّي ضحكتُها المنتصرة من سهول السافانا المجاورة حتّى بُحيرة مانيارا.

يرمِقُها رفيقُها باستغرابٍ وإعجابٍ وغِيرة: أيُّ إلهٍ ساعدَها، جعلَها تُحرِّكُ حصاها كما يلزم، ومنحَها قوّةً سِحريّةً خفيّة؟

يدفعُ الشابُ فتاتَهُ إلى الأمام بقوّة، وكأنهُ يريدُ أن ينتصرَ بِطريقته!

تسقطُ على الأرض، رجّةٌ كهربائيةٌ عذْبةٌ تتماوجُ في ورَكِها الكرويِّ الشاب. أمواجٌ الكترونيّةٌ رقيقةٌ تعبرُ جسدَها البلاستيكيّ الطازج.

تُقاومهُ لِتضاعفَ إثارته، تسخرُ منه جهراً: «هزمتُكَ!»، تقولُها رافعةً ذراعيها…

تزدادُ، في نفس الوقت، رغبةً واستثارةً بهذا الشدِّ والجذب.

 

يتوحّدان تحت السماء دون خوفٍ أو حواجز، غير بعيدٍ من مرأى القبيلة التي لا تكترثُ كثيراً بتفاصيل سيناريوهات هذه الطقوس البيولوجية الأليفة التي تضمنُ للقبيلةِ التناسلَ والبقاءَ على الأرض.

يصرخ صاحبنا: «وُلِدَ الإنسانُ هنا الآن فقط!».

 

 

الأسلوب هو الإنسان!

حبيب سروري

 

اللغةُ والتفكيرُ ثنائيٌّ تربطه علاقةٌ فيزيولوجية محفورةٌ في سيليسيوم الدماغ. يمكن تشبيهُ الطرف الأوّل بالطوبات التي تُبنَى بها العمارة، والثاني بالأرضية والفضاء الذي تحتلُّه.

الجسر الذي يربط بين الطرفين: الأسلوب، أشبهُ بالتصميم الهندسي الذي يتمُّ به إخراج عمارةِ التفكير وبنائها من طوبات الكلمات.

 

الأسلوبُ هو طريقة التعبير عن الذات: “الأسلوب هو الإنسان”، يقول بوفون. إذ ثمّة أكثر من طريقة مختلفة لقول الفكرة نفسها. ولكلٍّ أسلوبُه: طريقتُه الخاصةُ النابعة من طبقات الرغبة واللاوعي، حسب لاكان الذي درس هذه المقولة.

ولعل ما قاله شاعرٌ عربيٌّ قديم:

ولي صاحبٌ من بني الشيصبان              فحيناً أقولُ، وحيناً هوَ

يصبُّ في الاتجاه نفسه، حيث اعتقد العرب حينها أن نصف مصدر إلهام الشعر يأتي من جِنيٍّ (اللاوعي، في لغة علماء النفس!) من قبيلة جن بني الشيصبان، يُصاحب الشاعر.

فاللاوعي الإنساني في نظرية لاكان مصمَّمٌ كاللغة: له قوانينهُ وقواعدُ بناءِ عباراته وصفاتُهُ الجوهرية.

 

لذلك، في اختلاف تفاصيل تعبيرنا، الذي يترجم اختلاف رغباتنا ولاوعينا، نقول نصوصاً مختلفة متباعدة، وإن سعت جميعُها لِترجمة نفس المضمون. لذلك: كم أصاب من قال: “الشيطان يكمن في التفاصيل”!

 

ما هو الأسلوب المبدع؟

هو هذا الصياد الرهيف الذي يلهث وراء التيارات الكهروكيمائية، التي تحمل تفكيرنا الواعي ورغباتنا وأحلامنا اللاواعية، وهي تنتقل بين عصبونات الدماغ.

يحاول هذا الصيادُ المهندسُ الفنانُ محاذاتها والقبض عليها، وتقديمها في فساتين من كلمات، بعد تمسيدها بالإيحاءات والإشارات والرمز والاقتباسات والاستشهادات والصور البلاغية والأدوات السيريالية…

يعجن كل ذلك بتناغمٍ وانسجام، في وحدةٍ عضويّة كلها إيقاعٌ وموسيقى، وعباراتٌ نبيلةٌ تنطبع أبداً في الذاكرة الإنسانية.

 

هو باختصار: ذلك الرياضي الماهر الذي يجيد “الصعود الشاق لزقاق الإلهام الوعر”، كما يقول فيكتور هوجو.

فالأسلوب فنٌّ قبل كل شيء. فنٌّ صعبٌ يتطلّب شغلاً يوميّاً مثابراً لا يتوقّف: فلِكَي يكتبَ المرءُ نصّاً مؤثراً نقيّاً يسيل سلساً رقراقاً، يبدو طبيعيّاً صادقاً حقيقيّاً وإن كان مسبوكاً من الخيال الخالص، لا تظهر عليه التكلفة أو الصنعة وإن أعاد صياغته أكثر من عشرين مرّة كما يفعل كل المبدعين الكبار، يلزمهُ المثابرة في الكتابة، الإصغاء للنص، وحسن القراءة قبل كل ذلك. فلكي تكتب جيّداً، يلزمُ أن تقرأ جيداً.

 

إذ أنّ قراءة النص الأدبي عشقٌ بطيء، وعلاقةٌ غرامية طويلة مع الكلمات وموسيقى الفقرات. حتى الصمتُ بين العبارات يحلو الإصغاء الرهيف إليه وتذوقه. وإيقاعُ التنقيط أيضاً. كل ذلك بجانب القراءة المجردة للنص، والحوار مع الأفكار بعمق.

 

أعترف: عندما أقرأ عملاً أدبيّاً أبحث أوّلاً عن جمالية الأسلوب، أكثر ما أبحث. وعن الأفكار أيضاً بعد ذلك. أضعُ، في الكتاب الورقيّ، خطوطاً أفقية معرجنة بالقلم الرصاص تحت عبارات الصور البلاغية الجديدة المبتكرة في النص. كما أضعُ في الحاشية، على يمين فقرات النص التي تلفت انتباهي وإعجابي بأفكارها (وإن اختلفتُ معها)، خطوطاً مستقيمة تؤشر لتلك الفقرات.

وبعد نهاية قراءة الكتاب، أنسخ بخطٍّ صغير، في الصفحات البيضاء المتاخمة للغلاف الأخير، أهمّ العبارات التي وضعتُ أسفلها خطوطاً معرجنة.

قيمةُ الكتاب بالنسبة لي، وقوّةُ تأثيره، تتناسب طرداً مع عدد هذه الشخاطيط.

 

الصورُ والصيغُ الجديدة التي يبتكرها الكاتب، وإيقاع نصِّهِ وموسيقاهُ الخاصة، ترفعُ أو تخفظُ بارومتر إعجابي به. تليها نباهة أفكاره وقوّة مضامينه.

فالصور البلاغية جواهر الأسلوب فعلاً. أتذكّر أني شهقتُ يوماً عندما قرأتُ قبل عقود واستوعبتُ الصورة البلاغية لهاتين الكلمتين: “انتعلَ الظلَّ” (أي: انتصف النهار):

يقول القاموس: انتعلت المطيّ ظلالها: أي انتصف النّهار في القيظ فلم يكن للمطايا ظلّ . قال الرّاجز : “وانتعل الظلّ فكان جوربا” (تهذيب اللغة : للأزهري 2 : 399 ، ولسان العرب).

 

الأمثلة الأخرى بلا عد: تهزُّني الصورُ الصغيرة مثل: “نغمات الصمت”، “شتاء القلب”…؛ تُدوِّخ بي العبارات الكثيفة مثل: “انتظركِ بنهم”، “توأمي الروحي يتحول إلى توأمي الجسدي”…؛ تعصفُ بي الصور الشاعرية العميقة: “يجيد الإصغاء لنمو الأعشاب”، “قلبٌ يتسع لكلِّ رياض الجنة”، “أجواء الجحيم لا تحتمل التراتيل” (رامبو)…؛ يأسرُني الوصف التحبيبي الرخيم: “فستان من الموسلين بلون الياقوت ومزين بأزهار مخملية بنفس اللون”، مثلما يأسرني الوصف التكريهي الذكي: “تردعُ كلَّ استيهامٍ إيروتيكي”…

 

بالطبع، الإبداع لا يقبل النقل، لذلك يلزم دوماً ابتكار صورٍ جديدة. وعندما أقرأ الصورة البلاغية نفسها مرة ثانية، في نصٍّ أحدث، أعيب على الكاتب كسلَهُ وتكرارَهُ لإبداعات سابقيه.

لا أحب أيضاً القصفَ بالصور المركبة المبالغ بها. أتذكّرُ حينها كونفوشيوس الذي قال: تجاوزُ الحدِّ ليس أفضل من عدم الوصول إليه.

 

الأمثلة بلا عد هنا أيضاً: لا أحب هذه العبارة مثلاً: “كاتدرائية تثقب الفضاء بنبلٍ مخيف”. السبب: كلمةُ “مخيف” التي خدشت روعة ما قبلها.

لا أحب هذه الصورة: “أغمسُ أصابعي المحترقة في حنجرةِ الجليد” التي تقصف القارئ بتركيباتٍ وتداخلاتٍ متزاحمة لا تخلو من الكلفة…

لا أهضم هذا البيت الشهير:

أتاك الربيع الطلق يختال باسماً        من الحسنِ حتّى كاد أن يتكلما

الذي ألبس الربيعَ قبّعةً سهلة تافهة: “يختال باسماً من الحسنِ…” يمكن وضعُها على كل شيءٍ ولا شيء، وأنهاها بنتيجةٍ تواصل الانزياح الفضفاض: “كاد أن يتكلما”.

لا أحب بيت السيّاب:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السحر        أو شرفتانِ راح ينأى عنهما القمر

فالعينان الجميلتان أروع وأثرى وأفتك بكثير من شرفتين راح ينأى عنهما القمر، في كلِّ الأحوال.

 

لا أحب الصور الغامضة والنصوص المعقّدة. مع الأولى أتذكّر عبارة: “الظلمات الكثيفة ليست عمقاً”، ومع الثانية عبارة الشاعر بوالو: “ما يُصمَّمُ جيداً، يُعبَّرُ عنه بسيولةٍ رقراقة”…

أما أكثر ما أمقتهُ في الأسلوب فهو سوءُ الذوق والحذلقة و”البلطجة”، والأمثلة عن ذلك بلا عد أيضاً.

 

أكثر ما أحبّه في الأدب، مثلما أكثر ما أحبّه في الحياة: الصدق في التعبير الذي يصل عموديّاً عميقاً إلى قلبي، فأعرفُ قائلَهُ من أسلوبِه وصدقِ عباراته، وإن غاب اسمه بجانب النص، لأن “الأسلوب هو الإنسان” فعلاً.

 

فمن غير الفارس البوهيمي والشاعر اللدُنيّ، المتنبي، يمكنه قول هذا البيت الذي يلخِّص بِنبلٍ ملحمةَ حياة؟:

‫‫       الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني          والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ

 

ومن غير الشاب المتمرّد الموهوب، رامبو، يستطيع تلخيصَ ذاتهِ بأجمل من هذه الأبيات؟:

هاكم، يا من تحبّون في الكاتب غياب ملكات الوصف والإرشاد، بضع صفحاتٍ شنيعةٍ من دفتري، أنا الرجيم!

كان “الغاليّون”: سالخي جلود الحيوانات ومُحرقي العشبِ، الأكثر غباءً في حقبتهم.

لديّ منهم: الوثنيّة وحبّ الخطئية؛ ـ جميع الرذائل، الغضب والفجورـ رائعٌ هو الفجور؛ وخصوصاً الكسل والكذب.

جميع المهن تفزعني. السادة والعمال جميعاً فلاحون بلا نبالة. اليد الحاملة اليراع تتساوى واليد الحاملة المحراث…