ساخاروف، جاجارين، والمهدي المنتظر

حبيب سروري

 

ماذا تعرف عن مدينة نيجني نوفجورود: “العاصمة الثالثة” لِروسيا، كما يسميها الروس؟

لا شيء إطلاقاً!… طبيعيٌّ ذلك: كانت ممنوعةً على الأجانب حتى سقوط الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك هي ثالث أهم مدينةٍ روسية!

فإذا كانت، كما يقول الروس، سانت بيترسبورج رأسَ روسيا، وموسكو قلبَها، فنيجني نوفجورود جيبَها ومحفظَتها المالية: بها أهمّ المصانع الاستراتيجية: طائرات، ذرّة، سفن، سيارات، أسلحة؛ اختُرعت هناك صواريخ الكاتيوشا (تصغيرٌ تحبيبيٌّ لاسم: كاترينا!)…

ثم هي مشحونةٌ بالتاريخ: كانت من أهمِّ مدن شمال أوربا في العصور الوسطى. يتعانق فيها نهرا الفولجا والأوكا. لها قصورُ كريملين شاسعةٌ محصّنة لم تسقط يوماً لغازِ، وتراثٌ معماريٌّ متميّز، لاسيّما بيوتها الخشبية التقليدية التي يوشك البناء الحديث على محقِها للأسف. يُصنِّفُها اليونسكو ضمن أهمِّ 100 من مدن تراث الإنسانية.

ثمّ لا تبعد إلا حوالي 400 كيلومتراً عن موسكو، وحوالي 300 كيلومتراً عن قازان عاصمة جمهورية تاترستان الروسية (حيث كانت اللغة التتارية تكتب بأحرف عربية حتّى 1924!).

 

لأُذكِّر: عرف عددٌ مهمٌّ من المدن، خلال القرن العشرين، شقلبات في أسمائها وإعادة تعميدها بأسماء أخرى: استعادت ستالينجراد اسمها: فلغوجراد في 1961. وبعد تمزّق الاتحاد السوفيتي مباشرة، عاد الاسم الأصلي لنيجني نوفجورود بعد أن سُمِّيَت في عصره: جوركي (باسم الأديب البولشوفي والسوفيتي الملتزم، مكسيم جوركي، الذي وُلِد فيها)، واستعادت لينينجراد في الوقت نفسه اسمها القديم: سانت بيترسبوج (سُمِّيَت بينهما: بيتروجراد، من 1914 إلى 1924).

ليست هناك سوى ظاهرة عكسيّة مثيرة: مدينة كالينينجراد الروسية، حيث ولد وعاش الفيلسوف الألماني كانط. كانت ألمانية قبل طرد الروس لسكانها الألمان في نهاية الحرب العالمية الثانية. وما زالت تحافظ على اسم الرئيس السوفيتي “التافه” ميخائيل كالينين الذي أطلقهُ ستالين عليها، بدلاً من اسمها الألماني: كونيغسبيرغ. (“جسور كونيغسبيرغ السبعة” إشكالية شهيرة في الرياضيات، برهن إويلر في القرن 18 عدم وجود حلٍّ لها!).

أثار بقاء اسم كالينينجراد، حتّى اليوم، كونديرا في روايته الباهرة الأخيرة: “عيد التفاهات”، وتناوله في حوالي 10 صفحات رائعة منها!

 

غير أن صراع الأسماء في نيجني نوفجورود كان بنكهة ساخرة مثيرة، وسبق سقوط الاتحاد السوفيتي بكثير!

ففيها حُكِم على أندريه ساخاروف، عالِمُ الذرّة الروسي الشهير (النوبلي في 1975)، بالإقامة الجبرية لموقفهِ الرافضِ للغزو السوفيتي لأفغانستان. ولأن اسم ساخاروف بالروسي يعني: حلو، واسم جوركي بالروسي يعني: مر، فقد كان المعارضون للنظام السوفيتي يطلقون على مدينة جوركي اسم: ساخاروف!

 

أزور هذه المدينة كل بضعة سنوات، منذ التسعينات، بفضل علاقة أبحاث علمية دائمة بفريقٍ جامعي فيها، ولإشرافي على أطروحات دكتوراه لبعض باحثيها. أكتب هذا المقال الآن من أحد مقاهيها…

 

أتذكّر حدثاً ممتعاً حصل لي في المرّة السابقة: زرتُ متحف الفلك (بلانيتاريوم) فيها، الأحدثَ والأكبرَ في روسيا. دخلتُ سفينةَ فضاء جاجارين القابعة فيه. أخرجتُ هاتفي لأعطيهِ لزميل، لِتخليد هذا الحدث بصورةٍ شخصيةٍ يلتقطها لي داخل السفينة.

وقع نظري على إيميلٍ وصلني طازجاً في اللحظة نفسها، من موقعٍ مثيرٍ على الإنترنت، لأحد المشعوذين يبشِّر العالَم بأنه “المهدي المنتظر”!

شعرتُ بدوار!… لم أستطع منعَ نفسي من كتابة منشورٍ فيسبوكي، من داخل المتحف، بالصورة والإيميل، لِتفجير تأمل القارئ في التباين الفاحش بين عقليتين علمية وكهنوتية تتعايشان اليوم، هوسهما المشترك هذا الفضاء الشاسع الذي يحيط بنا من كل الجهات: السماء!

 

غير أن أوّل زياراتي للمدينة، في معمعان الشواش (Chaos) الذي عرفتْهُ روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، هي الأغنى بالعبرات الجيوسياسية والتاريخية.

كان شواشاً تاريخياً: بلدٌ يلهثُ بالاتجاه المعاكس، نحو أحضان عدوِّه: الغرب. يريدُ تقليدَه في كل شيء ولا شيء، بإعجابٍ طائش. المافيا في كل مكان، تتقاسم الشوارع. قلقٌ دائم…

لم أستطع في تلك الزيارة أن أتسكّع لوحدي دقيقةً واحدة. زملاء وطلّاب روس رافقوني قسراً، مختلقين ألف عذر!

 

كان عليّ في نهاية إقامتي أن أأخذ القطار الليلي الأخير من نيجني لموسكو، لمحاضرةٍ صباحية فيها، ولدعوةٍ مسائية لأوبرا البولشوي الميثولوجي الشهير!

حشرتني إدارة الجامعة في قطارٍ ليليٍّ مهيب، أمتلأ بعسكر وسياسيين رفيعي المستوى، في طريقهم جميعاً إلى موسكو لحضور دورةٍ في “الدوما” الروسية (البرلمان) تمسّ مستقبل دائرتهم الفيدرالية: الفولجا، بشكلٍ خاص.

كنت في عربةٍ لِنفرين، مثل العربات المجاورة، يحيطها اهتمامٌ خاص. يرافقني في العربة أهم مسئولٍ مدنيٍّ في المدينة، وفي العربات المجاورة كبار العسكر!

لم يتوقف جاري الروسي طوال الرحلة عن الإعراب عن إعجابه بالغرب بشكلٍ طفولي ساذج، وعن تكرار التعبير عن سعادتهِ لأن عيد ميلاد زوجته: 12 أكتوبر، يوم اكتشاف كولومبس لأمريكا!…

 

قبل النوم، اجتاحتني رغبةٌ تلصصيّة عنيفة: حاولتُ التنقل قرب أبواب العربات المجاورة، حيث يقطن عسكرٌ متقدّمون في السن يخلون من البشاشة والطلعة الأنيقة، وصلوا القطار ببدلات عسكرية مهيبة مفزعة.

كانوا جميعاً قد خلعوا بدلاتهم، يتنقّلون هنا وهناك ببيجامات نومٍ يستعرضونها كعارضات أزياء!

منظرٌ مدهشٌ لا أنساه: على كل واحدٍ بيجاما من حرير، هي عبارة عن فانيلة وشورتٍ قصير بألوان فاقعة. على صدر الأول صورةٌ دعائية ضخمة لكوكا كولا! على الثاني: ماكدونالند! الثالث: بيبسي كولا!…

مسرحُ عرائسٍ حقيقي بملابس طرطورية، يُشبِهُ مسرح عرائس نيجني نوفجورود الشهير، أبطالهُ أحفاد من هزموا هتلر!…

 

أستحضرُ الآن هذه العبارة التي أذهلتني، لِطالبٍ صينيٍّ سعدتُ بالإشراف على أطروحة دكتوراه قبل بضعة أعوام:

«عندما طلب الأمريكان منا في تسعينات القرن الماضي التغيير الجذري لِنظامنا الاقتصادي والسياسي معاً، قلنا لهم: لا!… لدينا فلسفة عمرها 7000 سنة، ونعرف بفضلها طريقنَا. فيها الاقتصادُ: يونج، والسياسةُ: يين. وتغييرهما معاً يؤدي إلى السقوط والانهيار، كما برهنت الأحداث بعد ذلك في الاتحاد السوفيتي الذي حاول تغييرهما معاً. يمكن أن يُطوِّع أحدُهما الآخر، لا غير. لذلك غيَّرنا الاقتصاد أوَّلاً فقط ليصير أكثر رأسماليةً من الاقتصاد الغربي، وحافظنا على السياسة وقواعد حياتنا اليومية، كما هي!…»

 

لنُذكِّر: لِكلِّ شيء وجهان في الفلسفة الصينية، يُرمَز لهما بـ «اليين واليونج»: الظل والضوء، الذكر والأنثى، المرئي وغيرالمرئي… يسكن اليين في اليونج، والعكس صحيح. كلاهما وجهٌ لِنفس الكينونة المركّبة. يحاول كل منهما أن يستحوذ على الآخر ويهيمن عليه!…

تُعارض هذه الفلسفة بشدّة السعيَ لِطمس وإنهاء أحد الوجهين تماماً. تُوصي بدل ذلك بتطويعِهِ وتكييفهِ لِخدمة الوجه الآخر.

 

النتيجة اليوم، بعد ربع قرن من انهيار الاتحاد السوفيتي: الصين تتقدّم بخطوات عملاقة لتكون القوّة الأولى في القرن الواحد والعشرين. وروسيا تشبه “فتوّة” عجوز، يشعر بالإهانة لتنحّيهِ القاهرِ من ناصية الأمم، يحنُّ إلى التحرّشِ ودعم الأنظمة المجرمة وعصرِ الحرب الباردة، لا يجد طريقاً يُبشِّر بغدٍ واعدٍ بمستوى أحلامهِ وتاريخهِ ومكانتهِ الطبيعية والتاريخية والثقافية الجليلة!