العبرة الأبدية من الأحزان الكمبودية

حبيب سروري

 

 

طريقي إلى كمبوديا انطلق تسكعاً من جنوب فيتنام، باتجاه دلتا نهر الميكونج.

لم أزر كمبوديا بغية عطر العود الكمبودي فقط (الذي يتجاوز الإقبال عليه العطورات الغربية، في أعياد بعض الدول العربية)، ولا معابد إقليم إنكور الشهيرة فقط، ولكن لأن شعب كمبوديا طيّبٌ جذّابٌ يحيرني على الدوام: يبدو صامتا منطويا، فيما لم يعان الأمرين شعبٌ مثله في نصف القرن الأخير. (تقول جدتي: “كل مُدَنّي، بِرأسِه جِنّي!”. المُدنّي: من يطأطئ رأسه بصمت، كما لو يخفي أمّ العِبرات).

 

دلتا الميكونج شبكة أنهار تتقاطع وتتفرع وتتداخل في كل اتجاه. تتخلّلها وتحيطها: حقول أرز تمتد إلى المالانهاية، وأرض مزدحمة بالأشجار والنباتات والغابات شديدة الاخضرار (للاخضرار هنا أصنافٌ وألوانٌ ومقامات).

على ضفاف تفرّعات الميكونج وقنواته صفوفُ منازل مفتوحة على الماء والسماء، مغروسةٌ في خصوبةٍ فردوسيةٍ لا نظير لها.

في ظاهرةٍ معاكسة للتصحر، تكتسح خصوبة دلتا الميكونج اليابسةَ وتنتزع منها عشرات الأمتار سنويا!

كل شيء في الدلتا متحركٌ عائم: الأعشاب، المنازل، والأسواق التجارية: تتنقل فيها بقاربك من قارب (حانوت) إلى قارب (حانوت) لشراء ما تحتاجه من السوق العائم! سحرٌ خالص!…

 

وصلتُ عبر هذه الدلتا الفيتنامية المدهشة إلى حدود كمبوديا، ثم عاصمتها: بنوم بنه، ثمة حيث جثمت الفظاعة البشرية القصوى والشر المطلق، في أكمل تجلياتهما، قبل 40 عاما بالضبط، في 17 إبريل 1975، يوم وصول الخمير الحمر يقودهم بول بوت إلى الحكم.

عانى الشعب الكمبودي كثيرا أيضا في السنوات الخمس السابقة (كل تاريخهِ في الحقيقة قبل ذلك: طغاهٌ يستنزفونه بلا حدود). فبعد انقلابٍ على الملك سيهانوك في 1970، خيّم على هذا البلد نظامٌ أمريكي. تلت الانقلاب، بالتعاون مع المقاومة الكمبودية، اكتساحاتٌ لِثوار الفيتكونج الفيتناميين لأراض كمبودية، لموجهة الأمريكان الذين ظلوا يقصفون بعشوائية قرى ومدن كمبوديا.

 

لم يكتف تاريخ هذا الشعب المقهور بهذه التراجيديا، لتلحقه بعد ذلك أم التراجيديات، عقب تربع بول بوت عليه.

 

“الأخ في الدم رقم واحد” حسب تسميته، بول بوت الذي لم يواصل دراسته للهندسة في فرنسا، عاد إلى كمبوديا شديد الإعجاب بالتجربة الماوية. حلمه المجنون: شعبٌ يحيى في العام صفر: مجتمع فلاحي نقي، بلا طبقات، مطهَّرٌ من كل تأثيرٍ أجنبي!

 

الطريق إلى ذلك: إبادة الطبقات الاجتماعية: المثقفين، البرجوازية الصغيرة، الأغنياء… ونقل مستوطني المدن إلى الأرياف للعمل في المزارع، وتقليص السكان وتطهيرهم الأيديولوجي (حكمة بولبوتية: “شعب 17 إبريل الذي ورثناه لا فائدة من بقائه، ولا ندم على إبادته”!)…

 

الوسائل: إغلاق المدارس، فصل الرجال عن النساء، قتل من يأكل فاكهة من شجرة داره (هي ملك للشعب!)، من غادر قريته ذات يوم للعمل في المدن (خيانة طبقية!)، من يلبس نظارة أو يتكلّم لغة أجنبية (ينتمي لطبقة المثقفين الشيطانية!)، من ملامحُه وسيمة (مدان بيولوجياً بالترهل الايديولوجي والنعيم الجنسي وخيانة الكادحين!)…

 

الخطة العملية العاجلة: نقل الشعب للزراعة في الريف، لمضاعفة انتاج الأرز 3 مرات!…

 

النتيجة: جراحٌ لن تندمل، مسّت كل أسرة، تحتاج كمبوديا إلى خيال بلا حدود لنسيانها. إذ أبيدَ أكثر من ربع الشعب الكمبودي (حوالي 3 مليون) خلال حكم الخمير الحمر (4 سنوات)، قبل وصول الفيتناميين لتحرير كمبوديا منهم، بعد عدوانها العسكري على بلدهم.

 

لِسبرِ حجم الجراح، يكفي مثلا زيارة متحف S21. كان، مثل غيره، مدرسة كولونيالية فرنسية واسعة جميلة، وتحوّل، بعد وصول بول بوت للحكم، إلى سجنٍ يقوده أحد أكبر جلادي القرن العشرين: دوش، الذي أدين بجرائم ضد الانسانية في محاكمة دولية.

دخول المرءِ السجنَ يعني تعذيبَه الإجباري الشنيع، ثم موته الأكيد. يصله مع كل عائلته بما فيهم الأطفال الصغار (حكمة بولبوتية: “لا تنس الجذر عند اقتلاع الشجرة!”… أخرى: “من الأفضل قتل البريء خطأً، على عدم قتل العدو!”).

كل ما ابتكره الإنسان من وسائل تنكيل، وما اخترعه طوال تاريخ التعذيب الإنساني، مورس في هذا السجن بمنتهى الفظاعة. يكفي قراءة “القواعد العشر” على سبورات صفوف المدرسة:

القاعدة 6: “يمنع منعا باتا الصراخ أثناء التعذيب بالصدمات الكهربائية”.

القاعدة 10″: عقوبة عدم الالتزام بأي قاعدة سابقة: 10 صدمات كهربائية”.

 

“حقول القتل” تنتظر المرء بعد السجن أكيدا إذا ما زال على قيد الحياة. أحدها، على بعد 17 كم من العاصمة، تحوّلَ إلى متحفٍ تذكاري يستقيم كل شعر الجسد عند زيارته.

سأكتفي بكلمتين: تواجهك عند دخوله شجرة (تشبه كثيراً الشجرة التي عرف قربها بوذا النيرفانا) يُصدم بها رأس الطفل لِتهشيمه أمام مرأى أمّهِ، قبل رميه في أحد عشرات أخاديد القبور الجماعية في الحقول.

يُمنع إطلاقُ رصاصةٍ على المدان (لا يستحق ثمن رصاصة!)، يكفي استخدام المطرقة أو المجرفة أو المنجل لضربه بالرأس، بعد قطع حنجرته بالخنجر كي لا يصرخ ويسمعه السكان المجاورون.

عموما لن يسمعه أحد، لأن ميكروفونات الأغاني الثورية (على شجرة تسمّى: الشجرة السحريّة)، وهدير ماكينات الديزل المجاورة لها، تُدوّي ليل نهار لِطمس صراخ القتلى…

 

سنوات نظام بول بوت خليطٌ مركز من الفظائع والتراجيديات. شناعة كل طغاتنا العرب ودواعشنا شذرات من “بركاته”. إذ في كل طاغية وحلم إرهابي عرقٌ ما من نظام بول بوت:

حلم داعش بالعودة لقرن الصحابة، في هذا القرن الواحد والعشرين، وهمجيتهم البربرية، ومسيرة الحوثيين القرآنية وتدميرها لليمن، نفحة من نفحاته.

وإبادة نظام الأسد لشعب سوريا وأصناف تعذيبه وبراميله وكيماوياته تجليات معاصرة للطقوس البولبوتية الأصيلة.

 

ولذلك، فإن محاضرةً بالصوت والصورة، لأوديسيا نظام بول بوت، في كل مدرسة من مدارس العالم، لا سيما العربي، ضرورةٌ إنسانية دائمة، لأن ثمة حقا عبرة أبدية في الأحزان الكمبودية!

يتلو المحاضرة نقاشٌ جماعي عن كيف يترعرع مثل هذا الوباء التدميري، وكيف يُقضى عليه. وعن الشر الكامن في الطبيعة الإنسانية، الذي طالما تحدث عنه الفلاسفة، لا سيما نيتشه، وقبله شاعرُهم أبو العلاء الذي قال:  

شرُّ أشجارٍ علمتُ بها

شجراتٍ أنبتتْ ناسا

كلّهم أخفتْ جوانحهُ

مارداً في الصدر خنّاسا