أنا الآخر!

حبيب سروري

 

أفينيون مدينةٌ طوباويّةٌ حقيقية طوال شهر واحدٍ من كل عامٍ على الأقل: لعلَّها خلال ذلك الشهر أفضل ما صنعه الإنسان للاقتراب من “المدينة الفاضلة”، يوطوبيا، التي تخيّلها أفلاطون، واستلهمها توماس مور في كتاب يحمل الاسم نفسه.

أعترفُ هنا: أعيش كلّ السنة بانتظار مهرجانها المسرحي الشهير الذي ينعقد في يوليو من كل عام (بدأ قبل 69 عاماً)، ولمدة 3 أسابيع، والذي يعتبره الجميع أكبر وأهم مهرجانٍ في العالم.

 

بدأتُ حضورَه السنوي المنتظم قبل عشر سنوات. كانت هناك سنتها 950 مسرحية. 1550 قبل عامين. ثمّ لم أعد أتابع هذه الأرقام المتصاعدة التي لا تفوقها إلا عدد دبابات جيوش طغاتنا العرب والمليشيات الدينية وهي تحرق الأخضر واليابس في سوريا واليمن…

 

مهرجان أفينيون ليس رقماً وقائمةَ مسرحيات فقط. هو مشروعُ مدينةٍ فاضلة حقّاً، لأنها، مثل يوتوبيا الفيلسوف أفلاطون، مدينةٌ حلم بها شاعر، وحقّقها فنان: اندلع مشروع أفينيون من حلم الشاعر رونيه شار، في 1945، وحقّق هذا الحلم، بعد عامين من ذلك، ممثلٌ ومخرجٌ مسرحيٌّ استثنائي: جون فيلار، يرتبط اسم المهرجان اليوم باسمه.

 

لنذكِّر: أراد رونيه شار أن لا تُعرض مسرحيتُه “موت في الكاتدرائية” في باريس (كعادة البدء آنذاك بالعرض أمام النخبة الارستقراطية في العاصمة)، لكن في أفينيون بجنوب فرنسا.

أفينيون مدينة تاريخية ساحرة. سُمِّيت “مدينة البابوات” لأنها لعبتْ، منذ 1309 حتّى 1423، دورَ روما الحالي كمركزٍ للمسيحيّة الكاثوليكية، وموقعٍ لِسكنِ بابواتها في “قصر البابوات” المتاخم للكاتدرائية، الذي أضحى اليوم صالة عرض المسرحيات الدوليّة الكبرى.

بعد حلم رونيه شار بسنتين، بدأ “أسبوع الفن في أفينيون” الذي أداره فيلار، وعُرِضت فيه لأوّل مرّة أعمالٌ مسرحيّةٌ جديدة.

 

أفينيون اليوم مدينةٌ ـ مهرجان، مدينةٌ ـ مسرح، “أجورا” معاصرة، مدينةٌ ـ كاتدرائيةٌ شاسعة:

كلُّ الأعمال المسرحية والأدبية الكبرى، وكلُّ الأسماء الأدبية الخالدة والمعاصرة، تتوزّع خلال مهرجانها على مسارح المدينة وقاعاتها ومرافقها وكنائسها، وخلاءات جبالها المتاخمة، وسُفن نهرِها (المهيئة جميعاً للعروض الفنيّة). كلّ ذلك في مدينةٍ تاريخيّةٍ دافئةٍ فاتنة…

تمتلئ طرقاتها ومقاهيها وأركان شوارعها بنشاطات فنيّة وموسيقية مدهشة (خارج النشاطات الرسمية)، لا تعد ولا تحصى، ولا تتوقف ليل نهار.

يتفجّر الجدل والنقاشات والندوات الفكرية في “معامل الفكر” المفتوحة فيها طوال أيام المهرجان، والتي يحضرها كبار الفلاسفة والمفكرين والكتاب والفنانين.

يعبر الممثلون والمخرجون شوارع المدينة، خارج موعد عرضهم اليومي، للّقاء المباشر مع الناس، ولتقديم أعمالهم بأسلوب متميّز جذّاب. نقاشٌ جماعيٌّ في كلِّ مكان…

 

الدرس الذي تعطيه أفينيون للعالم: إن لم يكن الفلاسفة والأدباء والفنّانون من يؤسس مداميك مدن المستقبل، ويقودونها هم أنفسهم، وليس رجال المال والسياسة كما هو حال مدن كوكبنا الحزين اليوم وهي تقترب من الانهيار، فلا جديد في الأفق!

 

يُخيّم على مهرجان هذا العام هاجسُ البحث عن دورٍ جديد للثقافة في عالَمٍ معاصرٍ مضطرب. فبعد الصدمة التي عرفتها فرنسا يوم “شارلي إبدو”، وبعد رؤية بعض شباب فرنسا في صفوف الإرهاب الدولي، أضحت كلمة “الثقافة” تدوّي في المهرجان أكثر من أي وقت مضى.

 

تطلُّ اليوم هذه الكلمة كنبيٍّ منقذٍ في عالمٍ بلا أفق ولا هدف، أشبهِ “بفندق مفتوح على المجهول”، عجزت فيه السياسة واستقالت. منظومته البيئية على حافة الكارثة، تستنزفهُ المنظومات المالية الأنانية وتنهبه، تدور عجلة الاقتصاد فيه في فراغ، تعبث فيه الهويات القاتلة والمعتقدات الظلامية والحروب الأهلية والدينية، الكلّ فيه يُجرِّمُ الكل ويترصّد له كذئب…

 

ما هي الثقافة أوّلاً؟

بعيداً عن التعريفات الأيديولوجية المتهافتة للثقافة، المرتبطة بالدين أو النازية أو “البناء الفوقي” للمجتمع، أو الشبيهة بمقولة شيلر “الفن موتور الثورة”، يبدو المفهوم الجديد للثقافة في أدبيات هذا المهرجان أبسط وأوسع وأهم وأعمق: ليست الثقافة مجموعة المعارض والمتاحف والأعمال الفنيّة والأدبية، ولكن أيضاً كل ما يسمح بحياةٍ إنسانيةٍ نوعيّةٍ متعاضدةٍ سامية.

 

يعني ذلك فيما يعني أن الثقافة وسيلة لإصلاح خرائب الإنسان، لإعادة بناء الاقتصاد، ولاكتشافٍ جديد للعالم. بوصلةٌ في زمنٍ بلا إحداثيات، مجهولِ المستقبل. معملٌ لِتأسيس مداميك حياةٍ بشريّةٍ أعدل وأفضل وأنبل…

 

يعني هذا التعريف أيضاً أن الثقافة ليست “زايد نعمة”، أو بضاعة في سوق العرض والطلب الثقافي، كما تريده المنظومات المالية التي تعرف كيف تستخدم تأثير التكنولوجيا الحديثة والشبكات الاجتماعية لصناعة الذوق “الماكدونالدي” الثقافي للمستهلك، ولضمان إدمانه على البضاعة الثقافية المربحة لها، ولربطه بها كما يرتبط المسافر بقطار سفره.

لكنها (أي الثقافة) نشاطٌ تعليميٌّ تربوي (لهذه الكلمة أهميّة جوهريّة هنا) يتكيء على الفن والأدب، يضمن وصول التنوّع الثقافي لكل فرد، ويدعم التجديد والاكتشاف والاختلاف والإبداع الحر.

 

ويعني هذا التعريف أيضاً أن للثقافة بُعداً إنسانيّاً عميقاً في الجوهر: هي من تربط الإنسانية جمعاء في مغامرةٍ مشتركة، تتجه نحو الآخر لتذيب الحدود معه، لتمتزج به. هي من تصنعُ الإنسان كإنسان. هي باختصار: بحارٌ تتعانق على الدوام.

 

لعلّ لذلك كان شعار مهرجان هذا العام: “أنا الآخر”!

ينطوي الشعار على دعوةٍ لأن نعيش معاً على البسيطة بتناغم، يكمل كلٌّ منا الآخر، ولأن ننشر قيم التبادل والتعاون والمشاركة المجانية. ثمّة بعدٌ صوفيٌّ حلاجيٌّ فيه، يقود إلى التوحّد بالآخر، ورؤية الكون بنظراته.

لا شك أن السياسات الغربية تمارس سلوكاً استغلاليا امتهانيّاً معاكساً له، وأن المنظومةَ المالية الدولية ترفضه جينيّاً، وتقود البشرية بذلك إلى عالمٍ متأزّمٍ موبوء.

 

“أنا الآخر” جسرٌ حضاريٌّ بين عالم الأمس وعالم اليوم. مشروعٌ لتوحيد الأنا بالآخر. ثم هو العكس النموذجي لشعار القبيلة، والنازية العرقية: “أنا وأخي على ابن عمي، وثلاثتنا على الغريب”…

 

خلاصة القول: مشروع أفينيون الشاسع الزاخر، كما يقول كتيّبٌ عنه في متحف “منزل فيلار”، يُجسِّد فعلاً الحكمة الأفريقية: “كي يكون ثلم مزرعتك مستقيماً على الدوام، إربط محراثك بالنجوم!”.

و”أنا الآخر” شعارٌ ثوريٌّ ينطلق من أفينيون لِفضاءات مدن المستقبل. لذلك يبدو الحديث عن يوميات مشروعها المسرحي كما لو كان “ذاكرة المستقبل”، حسب تعبير أراجون.

 

ولكلِّ ذلك أقضّي أسابيع أفينيون مسطولاً كما لو كنتُ داخل حلم. حلمٌ ينجب في الحقيقةِ ألفَ حلم. وما إن أحضرُ عملاً مسرحيّاً عظيماً فيها حتى أجد نفسي في سطلةٍ داخل سطلة. سطلةُ الانتماء ل “قدّاسٍ جمعي” (حسب تعبير المخرج المسرحي الكبير، بيتر بروك، في مقابلةٍ أجريتُها معه في أفينيون قبل عامين، نشرَتها صحيفة الحياة).

أتماهى في هذا القدّاس مع الممثلين وأتقمّص أدوارهم، أصير خلاله مؤقتاً “أنا الآخر”، بانتظار أن يصبح هذا الشعار الإنساني العظيم شعاراً يوميّاً لحضارة المستقبل!