في مديح 27 ديسمبر

حبيب سروري

(نُشِرَ جزء منه في الملحق الثقافي للعربي الجديد)

سأكشف سرّ هذا المقال من مستهلِّه: دُهِشتُ عندما لاحظتُ ذات يوم أن 27 ديسمبر هو، في نفس الآن، عيد ميلاد أبي العلاء وذكرى وفاة المتنبي:

في نهار 27 ديسمبر 965 قُتِل المتنبي وسيفه بيدِه، وهو يتعرّضُ مع قافلته لهجومٍ غادر. وقبل غروب شمس 27 ديسمبر 973، بعد 8 سنين بالوفاء والتمام، وُلِدَ أبو العلاء!

عفواً، لأتريّثَ وأبدأ المقال من البداية!

عندما يبدأ جسدُ الصبيّ تمتماته وتلعثمَه، تتفجّرُ حاجاتُه للحبِّ واللغةِ في نفس الوقت. ثمّ لا حبَّ بدون لغةٍ طبعاً. هي الوسيلة والملاذ والوطن. هي وعاءُ الوعي واللاوعي معاً.

حينها يتّجهُ الصبيُّ لِقراءة كُتّابِ لغتهِ الأم (ما اللغةُ دون أدبائها وفلاسفتها؟) بحثاً عن باقات الكلمات وذخائرها، عن كينونته، وعن مهندسين يهذبون صوته ويُغذّون روحه. يتعلّمُ منهم سردَ ما يدور بمشاعره، وتشييد جزيرته التعبيرية الخاصة وسط أرخبيل كتّاب المعمورة.

قبل قراءة معاصريه، يتَّجهُ الصبيُّ أوّلاً إلى أولئك المهندسين الأدباء الذين صاغوا مداميك وطن اللغة الأم، وفتحوا أهمّ أبوابها التعبيرية.

إن كان إنجليزياً فسيجد في انتظاره شكسبير، وإن كان ألمانياً فسيكون موعده الأول: جوته. دانتي إن كان إيطالياً، وبوشكين إن كان روسياً. لعلّ العرض سيكون أكبر قليلاً إن كان فرنسيّاً: بين موليير من ناحية، رامبو وبودلير من ناحية أخرى، هوجو أو غيره لبعضٍ آخر…

وإن كان عربياً: بعد عبورٍ مُلهِمٍ وصعب لبعض نصوص شعراء عصر الجاهلية، سيتوقّف في أغلب الظن عند أهمِّ جذرين تاريخيين: المتنبي والمعرّي.

من يدري، قد يرتبط بهما بعلاقة ميتافيزيقية عميقة. قد يسكناه يوميّاً ويكونا من أقرب الناس إليه. من يدري؟…

وإذا كان صاحبُنا مهووساً بتواريخ التقويم السنوي، وبالواحات الزمنية في أفيائه، وبضرورة إذكاءِ الذاكرة الجمعيّة الحيّة، وبمفهوم هيديجر: « تاريخية » الإنسان، فستنزلُ في حياتهِ ما تُشبِه الصاعقة إذا اكتشف يوماً أن هاذين الشاعرين اللذين يباعد بينهما كل شيء، ويوحدهما كل شيء أيضاً، عكسا علاقتهما المدهشة هذه في رمزٍ أجلى تنافرَها ووحدتَها المذهلين: 27 ديسمبر، ذكرى موتٍ وميلاد!

فمن منظور رياضيٍّ بحت: أن تجدَ، بين مجموعةٍ من 24 شخصاً أو أكثر، إثنين لهما نفس عيد الميلاد، فذلك مضمونٌ غالباً (احتماله أكثر من 50٪، ويمكن برهنتُه رياضيّاً). وتستطيعُ أن تتحوّل لذلك مليونيراً لو راهنتَ باستمرار عن وجود إثنين على الأقل، لهما نفس عيد الميلاد، في أيّة مجموعةٍ كتلك تلتقي بالصدفة (في حفلاتٍ مثلا)!

لكن أن تكون مجموعتك من أثنين فقط وليس 24، وتتكوّن ممن تعشقهما تحديداً، ويجمعهما التاريخ نفسُه مع ذلك، فتلك صدفةٌ حميدةٌ ممتعة!

كثيرٌ من عشّاق العربية ينحنون أمام المتنبي لأنه أثرى لغتنا بقصائد خالدة مثل: « على قدرِ أهل العزم »، « الرأي قبل شجاعةِ الشجعانِ »، « كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا »، « واحرّ قلباهُ ممن قلبهُ شبِمُ »، « أين أزمعتَ أيُّ هذا الهمامُ »… يكتفون بذلك في الغالب، متناسين أن حياة المتنبي روايةٌ مدهشة، نحتاج لأن نستحضرها لحظةً لحظة، وأن نتأمل في تفاصيلها المتلاطمة، ليس فقط لأنه قاد لغتنا إلى قممٍ رفيعة، بل لِملكاتهِ الإنسانية ومغامراته ونبل وطموحات مشروع حياته.

مثل ابن المعرّة، تفجّرت مواهب أبي الطيب في صباه في الكوفة، وتميّزَ بذاكرةٍ وقّادةٍ، وذائقةٍ فنيّةٍ عالية. وبعكسه، كان من عائلةٍ بسيطةٍ فقيرة.

لصق به منذ صباه لقبُ: « المتنبي »، لِتعاليه وفخره بنفسه (« أنا تِربُ النّدى وربُّ القوافي، وسِمامُ العِدى وغيظُ الحسودِ ») الذي لا يختلف عن تعالي أبي العلاء في مراهقته (« وإني وإن كنتُ الأخير زمانه، لآتٍ بما لا تستطيع الأوائل »).

أو لقولِه: « أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي » الذي اعتبرها من ورثَ مملكةَ لغة الضاد بعده، الشاعرُ الضرير أبو العلاء، غمزةً عاشقةً موجّهةً له شخصيّاً من خارج الزمن!

قيل أيضاً أن لقب « المتنبي » جاء لأنه كتبَ حينها آياتٍ تحاكي القرآن. الغريب أن لِهذا اللقب، في حالتهِ فقط بخلاف آخرين كمسيلمة الكذّاب، رنيناً نبيلاً يتداوله الناس بكثيرٍ من المدح والإعجاب!

بعكس « رهين المحبسين » (الذي تصومعَ خمسين عاماً في محبسه الثالث: بيتِه في معرّة النعمان، قبل أن « يدير ظهرَهُ للكثيب » كما يقول بكلماتهِ الساحرة): حياةُ أبي الطيب رحلةٌ دائمة لا تستقر (« مفرشي صهوةُ الحصان »، يقول)، بعض محطاتها الكبرى: السجن، حلب، فسطاط، العراق…

فلقد جاب الشاعر الصحاري والمدن بحثاً في الحقيقة عن موادٍ خام لمشروعه الأدبي، وعن هرموناتٍ ووقود ترفدها تفاعلاتُ رحلاته وعلاقاتُها الثريّة.

وبعكس « رهين المحبسين » الذي لم يمارس الحرب إلا في الشطرنج فقط (كان من أكبر أبطاله!): كان المتنبي فارساً شجاعاً خاض الحروب بشغفٍ مدهش، إذ قال: « وما سكني سوى قتلُ الأعادي »، أو « فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ، تكسّرتِ النصالُ على النصالِ ».

يبدو لمن يقرأُ شعرَه الحربي كما لو أنه مارس عشق الحرب من أجل رفدِ مشروعهِ الأدبيّ في الأساس، لِيتحفنا بمثل: « … والقنا يتبع القنا، وموجُ المنايا حولها متلاطمُ »، أو « كأنكَ في جفنِ الرّدى وهو نائم. تمرُّ بك الأبطال كلمى هزيمة، ووجهكَ وضّاحٌ وثغركَ باسمُ »…

أليس في خراب الحروب جماليةٌ لا حدّ لها، نهل منها أعظم الأدباء مثل هوميروس؟ وما الإلياذة إن لم تكن نصالاً تتكسّرُ على نصال؟…

يلوم الكثيرون المتنبي كونه قضّى حياته يمدح الأمراء، بخلاف المعري الذي لم يمدح يوماً حاكماً قط. لعلّ ثمّة شَبَهٌ عميقٌ ما في الموقفين مع ذلك:

يعتبر أبو العلاء في الجوهر أن الأديب أرفع مقاماً من الحاكم. ولعلّ في مدحِ أبي الطيّب ما يتّفِق مع علوِ الأديب على الحاكم: يحدِّد الأوّل قيمة الثاني في بورصة التقدير المجتمعي. يستطيع مدحُ الأوّل أن ينقلب هجاءً في نفس القصيدة كما حصل مع كافور، أو أن يرفع ذروةَ منحناه البياني ويخفضها بشكلٍ يتناسب مع تغيُّرِ تقدير الشاعر لممدوحه، أو أن يتحوّل إلى لومٍ حميمٍ قارس لا يخلو من السخرية، كما فعل مع سيف الدولة « الذي استوت عندهُ الأنوارُ والظُّلَمُ »…

فوحدُهُ الأديب، في الأخير، من يترك عن الحاكم ما يتبقّى في ذاكرة الأجيال. يرفعه أو يسقطه، كيفما يقرِّر!…

لن أتحدث هنا عن أبي العلاء الذي كان حاضراً في كتابي ما قبل الأخير « لا إمام سوى العقل »، حسب تعبيره: عنوان مشروعه الفكري، مشروع مستقبلنا العربي إن كان لنا مستقبل.

لهُ وعنهُ كتبتُ أهم رواياتي: « تقرير الهدهد » التي أنهيتها في 27 ديسمبر 2010، يوم عيد ميلادهِ الذي لم أتوقّف حقّاً عن إضاءة شمعةٍ فيه كل سنة، وأُبَشِّر به في كتاباتي منذ قبل أسبوعين من موعدهِ غالباً، وأحياناً في 27 يونيو (أي قبل نصف عامٍ منه، مثل هذا اليوم الذي أكتب به مقالي هذا!).

استحضر الآن الأمريكي هنري ميلر الذي ألّف كتابه عن رامبو، في أكتوبر 1954، بمناسبة قرن من وفاته، ضمن احتفالات فرنسية ودوليّة استعراضية بتلك الذكرى:

« ماذا نقول عن مراهقٍ زلزل العالم؟ أليس ثمّة إعجازٌ في مجيئه إلى الأرض؟ »، ثمّ أضاف هذه العبارات التي تصلح بشكلٍ خاص لحبيبي أبي العلاء:

« فسّروا عطاءهُ كيف تشاءون، إشرحوه بطريقتكم، لكن لا تأخذوه بخفّة. المستقبل ينتمي له، إن كان ثمّة مستقبل! ».