شاهدٌ على حضارةٍ جديدة

حبيب سروري

(نُشِرَ جزء منه في الملحق الثقافي للعربي الجديد)

من لم يدرك أننا نعيشُ اليوم في حضارةٍ إنسانيةٍ جديدة؟… يهيمن عليها عملاقٌ ذو أربعة رؤوس، يطلق عليه: غافا: غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون. يُقضِّي إنسانُ اليوم أكثر من متوسط نصف وقته الرقمي داخل الفضاءات الأربعة لهذا العملاق. وزنه المالي أكثر من وزن الأربعين شركة الأولى في البورصة، ومعدل نموه أكبر من معدل نمو الصين!…

ومع ذلك، لم تتأسس شركاته الأربع إلا في هذا القرن الجديد، أو في نهاية سابقه!

لأتحدّثَ عن ثاني أغنى هذه الرؤوس، وأكثرها إثارة للدهشة: غوغل، “مُنظِّم معلومات الكرة الأرضية”، كما يطلق على نفسه.

إمبراطورية خلقاها طالِبان، من وحي معادلة رياضية اخترعاها عندما كانا في جامعة ستانفورد، في 1995، عمرهما 23 و 24 سنة:

يتكئ غوغل على فهرسٍ شاسع، موزَّعٍ على أكثر من مليون كمبيوتر في أنحاء مختلفة من المعمورة. الفهرسُ عبارةٌ عن قائمةٍ بكلِّ كلمات كلِّ اللغات. بجانب كل كلمةٍ قائمةٌ بكل روابط صفحات الإنترنت التي تحتوي على هذه الكلمة!

قبل غوغل، عندما كان السائلُ يبحث في موتورات الأبحاث الإنترنيتية عن «البيت الأبيض» مثلاً، يصل له موقع البيت الأبيض بعد 50 جواب، فيما لا ينظر المرء غالبا إلا إلى العشر أو العشرين الإجابة الأولى.

فكرة غوغل الرئيسة: ترتيب روابط الفهرس، لكلِّ كلمة، حسب درجة «شعبية» صفحة الرابط، بدءاً بالصفحة الأكثر شعبية.

اخترَع مؤسسا غوغل مفهوماً ألمعيّاً عميقاً للشعبية، يمنع الغشّ: شعبية أية صفحة تتناسب طرديا مع عدد الصفحات الشعبية التي تحتوي على رابطها!

ثم بمعادلةٍ رياضية صغيرة، اسمها معادلة «النقطة الثابتة»، حسبَ مخترعا غوغل «شعبية» كل صفحة على الإنترنت، ورتّبا سلسلة روابط الصفحات الخاصّة بكلِّ كلمة في الفهرس في ضوء مقادير شعبياتها، ثمّ وزّعا هذا الفهرس اللانهائي المتجدّد يوميّاً على مئات آلاف الكمبيوترات.

لعلّها أثمن معادلة في تاريخ الإنسان، بدون شك: تكسبُ شركة غوغل بفضلها آلاف المليارات دولار، ومركزاً في قلب حضارتنا الجديدة.

حيُّ غوغل في وادي السيلكون بكاليفورنيا ثكنةٌ ممنوعة الدخول إلا لموظفيه، وللواجهات الدوليّة الكبرى: (عربيّاً، زارته رانيا، ملكة الأردن).

مشاريع الأبحاث التي تنمو بسريّة في مختبراته المحصّنة تشبه مشاريع الخيال العلمي. مثال صغير: بعد الطائرة بدون طيّار التي تستخدمها اليوم شركة أمازون لتضع ما يشتريه الناس على الإنترنت أمام أبواب بيوتهم، “لسنا بعيدين عن زمن السيارة التي تطير”، يقول أحد مخترعَي موتور غوغل!

ما يميِّز حضارتنا الجديدة أيضاً: لِسلطةِ المال فيها دورٌ أفتكُ من أدواره في حضاراتنا السابقة. إذ مرتعُها الجديد: كلّ الكرة الأرضية، بفضل إحدى أخطر كلمات قاموس الحضارة الجديدة: العولمة.

انبثقت هذه الكلمة بعد سقوط المعسكر السوفيتي، الذي كان سببه في الجوهر، حسب آراء فطاحلة المحلّلين: الكمبيوتر الشخصي! (لم يكن المعسكر السوفيتي قادراً اقتصاديّاً على صناعة هذا الجهاز، ولا مؤهَّلاً بنيويّاً للسماح لِسكّانه بامتلاكه، والارتباط بحريّة عبره بالعالم).

في الفضاء الاقتصادي لحضارتنا المعولمة: آلاف مليارات الدولارات الافتراضية تطير كل لحظة، من طرف الأرض لطرفها، بلمحة بصر، لا تعرف حدوداً أو حواجز… جشاعة الأسواق الماليّة فيه هاويةٌ بلا قاع، تخنقُ إنسانَ اليوم وتُدمِّره: تجيدُ، في ضوء “علم الفقاعات المالية وانفجاراتها”، اختلاق الأزمات والسلع المالية المسمّمة التي تطيح بحياة مليارات من بسطاء الأرض، لِتخْرُج هي بعدها بمئات مليارات الدولارات من الأرباح الإضافية.

الموقع السياسي للقوى المالية في حضارتنا الجديدة (التي تديَّنت من طرف الأرض لطرفها بدين الليبرالية الاقتصادية) أكثر نفوذاً من قبل: تقود هذه القوى العالمَ “بوجهٍ لا مرئيّ”. لا يتجرأُ القادة السياسيون اتخاذ قرارٍ يدعكها. لا تخدم الاقتصادَ، كما هو دورها الطبيعي. لكنها تستخدمه لِمصالحها الأنانية في الكسب الرخيص الفاحش.

حتّى المجالُ العلمي صار اليوم أسيرَ قوى المال: هي من تُحدِّد سنويّاً أولوية مواضيع الأبحاث العلميّة وكميّة دعمها المالي، لِخدمةِ حاجاتها المباشرة.

الخاسر الكبير في ذلك: البحث العلمي النظري الذي لا يرتبط بتطبيقاتٍ ذات مردود ماليٍّ مباشر. خطيرٌ ذلك، لأن كثيراً من الاكتشافات العلمية التي غيّرت حياة البشرية أتتْ بفضل نتائج نظريّة سبقتها بعقود، لم ترتبط بحوثها، بالضرورة، بتطبيقاتٍ عملية: كان هدفها التطوير النظري للمعرفة الإنسانية لا غير.

شكل اقتصاد الحضارة الحديثة تغيّرَ أيضاً: بجانب الاقتصاد الانتاجي، يسود اليوم “الاقتصادُ التلقيحي”: إقتصادٌ معرفيّ، تفاعليّ، نموذجه اقتصاد غوغل وفيسبوك، تحدّثنا عنه في مقالٍ سابق: “العسل، ونبوءة آينشتاين”.

استعارته: دور النحل التلقيحي للنباتات أهمُّ بكثير من دورها في انتاج العسل!

ليس غريباً في هذا النموذج الاقتصادي أن لا تكون قيمةُ الإنسان مرهونةً بذكائه وشهاداته، لكن بِ “دفتر عناوينه”: قائمة الأشخاص المهمّين الذين تربطه علاقةٌ بهم، ويستطيع التأثير عليهم، و”تلقيحهم”!

صار ذلك الاختيار أكثر فأكثر أهمية اليوم في تعيينات مستشاري رؤساء الدول وكبار النافذين. ولعلّه يتسلّل أيضاً، لسوء الحظ، ولو ببطء، في المجالات الأخرى، كالتعيينات والترقيات العلمية أحياناً!

ما يزيد اليوم من جبروة القوى المالية وسطوتها أضعافاً مضاعفة: هرمونات تكنولوجيا المعلومات، والإبداع التجديدي في الأبحاث العلمية:

بنوك الدنيا تتحدّثُ اليوم اللغة نفسها، تستخدم صيغات البيانات والبرامج الكمبيوترية نفسها: يكتب موظف البنك في فرانكفورت سطراً من برنامج الكمبيوتر قبل مغادرته المكتب في المساء، لِيواصله زميله بعد دقائق فقط، في سدني التي تستيقظ من النوم!…

سرعة تبادل المعلومات المالية صارت اليوم أسرع من قبل 7 سنوات فقط بمليون مرّة!

70٪ ممن يقومون بالمضاربات المالية هم برامج كمبيوتر ذكيّة، ذهبية الثمن، تدرس تاريخ الشركات التي تضارب على أسهمها، وتطوّرات كلِّ مؤشراتها بلمحة بصر.

البقية، “الحلزونات البطيئة”، هم جيوش رجال المال المرابضين في البورصات بأعين ملتصقة على شاشاتها، بهواتفهم الجوّالة المحمومة، وأصابعهم التي تلهث على لوحات مفاتيح كمبيوتراتهم! أوّل درس يتعلمه هؤلاء المقاتلون: «الوقت من ذهب»، «السرعة سلطة». من يسبق الآخر بِنَانو ثانية يكسب السوق!…

لكسب هذه النانو ثانية لا يقف في وجه قوى المال حائل: تغرس حالياً شركة هيبرنيا ألياف ضوئية تعبر المحيط الأطلسي لربط أمريكا بأوربا، في طريقٍ أقصر من الطريق الحالية، طولها 4600 كيلومتر، تسمح لعملاء الشركة بكسبِ 3 في الألف من الثانية، وسبقِ الجميع أثناء الاختيارات في أسواق البورصة!

علامةٌ جديدة في العلاقة الغرامية بين قوى المال وتكنولوجيا المعلومات: رُوت بوراك، المديرة المالية لبنك الأعمال الأمريكية: مورجان ستانلي (“أعتى امرأة في وول ستريت”، رفضت سابقاً منصب وزيرة مالية أوباما) تستقيل من عملها وتسافر إلى كاليفورنيا في 26 مايو 2015، لتصبح المديرة المالية لشركة غوغل. تستلم حال وصولها “علاوة ترحيب”: 70 مليون دولار!

مهامٌ كثيرة تنتظرها، بينها تشغيل 60 مليار دولار نائمة، في مشاريع جديدة. الرمز الأهم هنا: يعتبر المحلِّلون انتقالها علامة من علامات هذا العصر الذي تذوب فيه السلطة المالية في أحضان سلطة تكنولوجيا المعلومات!

سؤال: هل حضارتنا الإنسانية الجديدة أرقى من سابقاتها؟

تكنولوجياً وعلميّاً: نعم، بالتأكيد. عدا ذلك، فيما يتعلق بسعادة البشر، لا أعتقد.

الأسوأ: دورها في تلوّثِ كوكب الأرض ونكباتٍ بيئيةٍ ستطيح به مستقبلاً، بسبب النتائج الحرارية للنشاطات البشرية في العقود الأخيرة، يجعلها المسئولة عن أوّل كارثة بيئية كوكبية لم تأت من الفضاء الخارجي للأرض، وإنما مصدرها الإنسان.