الإبداع مقاومة، المقاومة إبداع

حبيب سروري

(نُشِرَ جزء منه في الملحق الثقافي للعربي الجديد)

في مقالٍ سابق (شاهدٌ على حضارةٍ جديدة) رسمنا ملامحَ حضارتِنا الإنسانية الجديدة التي يقودها ماردان يتواشجان اليوم أكثر فأكثر: تكنولوجيا المعلومات وديكتاتورية قوى المال.

ولأنّ لكلِّ حضارةٍ جديدةٍ عالمٌ جديد، فعالمُنا الجديد هذا: كوكبٌ ملوّثٌ تنتظرهُ نكباتٌ بيئيةٌ، سببها النتائج الحرارية للنشاطات البشرية في العقود الأخيرة، تنذر بأوّل كارثة بيئيّةٍ تطمّ المعمورة، لم تأت هذه المرّة من الفضاء الخارجي للأرض وإنما مصدرها الإنسان (الذي تقوده في الغالب المصالح الأنانية للقوى الماليّة).

‫فمنذ نهاية القرن الماضي، زادت درجةُ حرارة كوكبنا حوالي درجتين سينتيجراد في المتوسط، وارتفع سطح البحار والمحيطات، وتضاعفت ظواهر الفيضانات والتسونامي… كل ذلك بسبب الاستخدامِ المفرط للطاقة، والإفرازِ الذي تجاوز الحدود لغازات الاحتباس الحراري كثاني أكسيد الكربون، والاستهلاكِ الجشع للمواد الأولية للأرض… دون الحديث عن تلوث البسيطةِ بمخلفات قذرةٍ متنوِّعة تتركها مجمل النشاطات الإنسانية…

‫النتيجة: المنظومة البيئية للكرة الارضيّة تفقد توازنها في هذا العالم الجديد، تترنح، وتنذر بخرابٍ عاصف لِكوكبنا المسكين: جليد القطب الشمالي يذوب بسرعة مرعبة؛ رويداً رويداً تختفي جزرٌ ومناطق من سطح المعمورة؛ تعلو سطوحَ البحار جزرٌ من البلاستيك وكاتدرائياتٌ من القاذورات الصناعية…

يكفي أن نتذكّر أن عدد اللاجئين بسبب الكوارث البيئية تجاوز في عام ٢٠١٤ عدد اللاجئين من الحروب!

المفارقةُ المجنونة: في الوقت الذي تضع حضارتنا الجديدة هذه بين طلائع مشاريعها تطويلَ حياة البشر (تأجيلَ موعد الموت)، وفي الوقت الذي يعاني عددٌ شاسعٌ من الناس من آفة البطالة العضال، ثمّة مرضٌ جديدٌ يكتسح الموظّفين، برز مع بداية هذه الألفية، اسمه: out ـ Burn، الانهيار الاكتئابي. يسعى برلمانيون إلى إدراجه في قوانين العمل كمرَضٍ مهنيٍّ تتحمل الشركات مسئوليته.

هو مرضُ أولئك الذين يهلكهم الجري من مهمّة إلى أخرى صبحاً ومساء، أعينهم على شاشات الكمبيوتر والهواتف، في صراعٍ مجنون مع الزمن، يلتهمهم قلقٌ مستديمٌ من الخسارة أو الخطأ أو البطالة. كأنهم شارلي شابلن في فيلمه التاريخي البديع: “الأزمنة الحديثة”، الذي يسخَر فيه بعبقريته الخالدة من نظام العمل أيّام الكساد الكبير الذي تلى أزمة البورصة في 1929.

سؤال يفرض نفسه: كيف يقاوم الإنسان هاوية هذه الحضارة المجنونة؟

انطلقت من أسبانيا وجنوب أوربا في 15 مايو 2011، بُعيدَ ربيع تونس ومصر بأشهر، مسيراتٌ واعتصاماتٌ ضمّت عشرات الآلاف في مئات مدنٍ أوربية، أطلقت على نفسها اسم: المستنكرين، متأثرةً حينها بثورات الربيع وقياداتها اللامركزية، وبطبيعته السلمية الاعتصامية، وبدور الشبكات الاجتماعية في تنظيمه، وبطبيعة شعاراته التي تطالب بالحرية والكرامة، لا سيّما شعاره الخالد: “الشعب يريد إسقاط النظام”.

‫وراء الاسم كُتَيّبٌ لا يتجاوز ال 30 صفحة، عنوانه “استنكروا” (ضمن سلسلة: “أولئك الذين يمشون بالاتجاه المعاكس للريح”، لِدار نشر مغمورة في جنوب فرنسا، لا يعرفها تقريبا أحد) ظهر في يناير 2011 بدون أيه دعاية إعلامية، وشكّل فجأةً ظاهرةً اذهلت الجميع: بيعت منه مليون نسخة في فرنسا في 3 أشهر فقط!

ترافقت صرخات هذا الكتيّب مع صرخات الثورات العربية: “الشعب يريد اسقاط النظام”، التي اندلعت بالصدفة مع موعد نشر الكتاب وفي تناغمٍ كليٍّ عميق مع فلسفته!

‫كاتبهُ ستيفان هيسل، ولد في 1917! كان مقاوماً قديما للنازية. لخّص في كتابه ما أعطى لحياته هيكلها واتجاهها: الاستنكار والمقاومة.

‫سرد فيه دوافع الاستنكار والمقاومة في عالمِ اليوم الأكثر تعقيداً من عصر النازية: ارتفاع الهوة بين الفقراء والأغنياء، ديكتاتورية الأسواق المالية، تقليص المكاسب الاجتماعية التاريخية، مأساة فلسطين، الأوضاع البيئية لكوكب الأرض…

“إبحثوا حولكم عن القضايا التي تحتاج للاستنكار والرفض وستجدون أكواما هائلة. إنسانية الإنسان تكمن في رفضه كل ما يستدعي الاستنكار”، كما ينطوي عليه لبّ الكتاب.

‫قوّة الاستنكار تكمن في سلميّته: تحدّث هيسل مثلا عن روعة مسيرات أهل “بلعيد” في الأراضي المحتلة الفلسطينة، كل جمعة، نحو الجدار العازل الذي يرفضونه، بدون استخدام القوة، بدون رمي حجارة… سخر بقوّة من تسمية دولة إسرائيل لهذه المسيرات السلمية، ب “الإرهاب اللاعنفي”!… “يلزم أن يكون المرء إسرائيليا ليسمي عدم العنف إرهاباً”، كما يقول.

“ينبغي اليوم، مثل الأمس، ممارسة الإنسان لرفضه واستنكاره، ضمن شبكةٍ اجتماعية متفاعلة”، يضيف.

‫استمرت حركة المستنكرين إلى اليوم، وأثّرت أخيراً إيحابياً في التغييرات السياسية العميقة التي عرفتها قيادتا اليونان وأسبانيا.

‫وفي ١٧ سبتمبر من نفس العام الخالد ٢٠١١، اندلعت في أمريكا مسيراتٌ واعتصامات في تخومِ وول ستريت (مبنى البورصة الأمريكية، قدسِ أقداس قوى المال وسادة هذه الحضارة الجديدة)، متأثرةً ببدايات الربيع العربي وحركة المستنكرين الأوربية، وعلى نفس طرازهما.

أطلقت الحركة على نفسها: “نحن ال 99٪” (الذين لا يقبلون جشع وفساد ال 1٪، كما يقول عنوانها الرئيس)، ولخّصها شعار: “لِنحتل وول ستريت!”.

شاركت في مسيراتها أسماء كبيرة كنعوم شومسكي وسلمان رشدي، المخرج ميكائيل مور، والنوبلي في الاقتصاد ستيجلتس الذي حثّ على الرفض والاستنكار لأننا “ندفع ثمن أخطاء أسواق المال”.

عدّة أفلام وثائقية تُعبِّر عن حلمِ “لِنحتل وول ستريت!”، منها:

https://www.youtube.com/watch?v=u-p3zt8hP-g

وآخرها الفيلم الوثاىقي للمخرج الإيراني أمير أميراني “نحن الكثيرون” الذي عُرِضَ مؤخراً في بريطانيا، ويستحقّ دراسةً كاملةً لاحقة.

ونحن العرب، ما موقعنا من الإعراب اليوم في هذه الحضارة الجديدة؟

القيم المطْلقة لكلّ المؤشرات السلبية: زيادة الأميّة، تدهور المعيشة، انهيار مستوى التعليم، جثوم الظلامية، ضعف القوى التقدمية، تدمير الذات… كلها جميعاً، زاد ارتفاعها على الصعيد العربي بشكل عام، في السنوات الأخيرة، لا سيّما بعد دخول القوى الظلاميّة المتطرفة على خطّ ثورات الربيع العربي!

ومع ذلك، ما أحوجنا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى للمقاومة على كلِّ الأصعدة، ولِمشروعٍ حضاريٍّ تنويريٍّ يلتفّ حوله الجميع، يوقف سقوطنا التراجيدي هذا خارج العصر!

فكما تقول آخر عبارة في كتاب ستيفان هيسل: الإبداع مقاومة، والمقاومة إبداع.