نهاية الحضارات

حبيب سروري

(نُشِرَ جزء منه في الملحق الثقافي للعربي الجديد)

ستنتهي، ياللهول، الحضارة البشرية يوماً بالتأكيد! أرتجف من الآن وأنا أتصوّر سيناريو ذلك الكابوس التراجيدي القريب، أمّ الطامّات الكبرى!

لن يكون موعد نهايتها بالطبع ما تخترعه التقويمات الزمنية للمنجّمين، كأصحاب حضارة المايا الذين حدّدوه في 21/12/2012!

 

مواعيد العلماء مختلفة: بعد حوالي خمسة مليار عامٍ فقط ستصطدم مجرّتُنا الحبيبة: درب اللبانة، بجارتها الغالية: اندروميد. (كل الكلمات تتقزّم، تتلاشى عندما أتصوّر هذا الاصطدام المهيب!)، لتتشكّلَ إثر ذلك مجرّةٌ جديدة: ميلكوميد.

 

أمّا الفناءُ الكليّ للكون، “يوم قيامة العِلم” إن جاز التعبير، أي: “التمزّق الكوني الكبير” فلم يحدِّده العلماء إلا مؤخراً: سيكون بعد 22 مليار عامٍ فقط، كما حسبتْهُ معادلات مقالٍ علمي جديد ومهم أعادت الصحف الدولية عرضَهُ البارحة، 3 يوليو 2015.

سبب هذا التمزّق: التمدّد الدائم لِلكون منذ تشكُّلِهِ عند ولادته يوم “الانفجار الكوني الكبير”، قبل حوالي 13.7 مليار عام!

 

يبدو إذن أن كوننا صبيٌّ واعد، لم يصل بعدُ منتصف العمر. هو في سنِّ المراهقة تحديداً! ومع ذلك: مهدّدةٌ حضارتُنا البشرية بالانهيار خلال زمنٍ قريب: ستنتهي، كما انتهت أمام أعيننا الحضارة السوفيتية، أو الحضارة الرومانية في القرن الخامس.

متى ستنتهي إذن؟

قبل الرد، أنقلكم أوّلاً لِروما، “المدينة الخالدة”، عام 410، و”قبائل آلارايك الجرمانية تنهبها، وتسحب معاطفها الزرقاء الطويلة في دماء العذراوات”، كما يقول جيروم فيراري في روايته “موعظة حول سقوط روما” التي نالت جائزة الغونكور في 2012.

معنا القديس الجزائري أوغسطين (من مواليد تاجست، قرب قسطنطنية في الجزائر، أحد أعظم الشخصيات التاريخية للكنيسة الكاثوليكية، وأكثرهم تأثيراً على لاهوتها وفلسفتها)، وهو يخطب في كاتدرائية هيبون (عنابة، بالجزائر حالياً) أمام جموعٍ هائلةٍ لم تستوعب كيف سقطت المدينة الخالدة في 3 أيام.

يقول لِلحشدِ، الذي يبكي بضراوةٍ من هول الصعقة، هذه الكلمات الخالدة: “أتظنُّ أن روما لن تسقط أبداً؟ منذ متى بنى الإنسان مدناً خالدة؟ لا يبني الإنسان إلا فوق رمال. العالَم كالإنسان، يولد ويكبر ويموت.”

 

تحكي رواية فيراري قصة حياة شابّين من قرية نائية في جزيرة كورسيا يتركان دراساتهم الفلسفية في باريس للعودة إلى قرية الطفولة، لإدارة مقهى فيها: حلم حياتهما ومشروعها الكبير.

بعد سلسلة أحداث مترابطة متداخلة، يؤول مقهاهما إلى جهنم، مثلما ستؤول إليه حضارة الإنسان.

بعد تمزّق المقهى، يسترسل فيراري فجأة، دون مدخل أو تمهيد، ليختتم روايتَه (المسكونةَ بلعنة تخريب الإنسان لعالَمٍ هو من شيّده) بمقاطع طويلة ومؤثرة جدّاً من موعظة القديس أوغسطين الشهيرة!

 

مثلما للساعةِ علاماتُها في الأديان (يأجوج ومأجوج، المهدي المنتظر…)، فلانهيارِ الحضارة البشرية علاماته: قلق الأدب والفن من اقتراب هذا الانهيار، وترجمة ذلك القلق بعددٍ هائل من الأفلام والروايات الحديثة.

يُخيّم في الحقيقة هاجسُ الانهيار على الإنتاجات الفنيّة والأدبية الجديدة. ومن غير الأدب والفن يستطيع أن يسرد ما يدور في خوالج الإنسان من قلق ورجفات، وما يكشف اضطرابات مآلات حياته وهاوياتها المرتقبة؟…

 

آخر قائمة الروايات الانهيارية: الروايةُ الأخيرة لصاحب رواية “فن الحرب الفرنسي” (التي نالت جائزة غونكور 2011): لَيلُ والنهامس (غاليمار، 2015).

والنهامس كانت أهم وأكبر مدينة صناعية في شمال فرنسا. تمرّ الحدود مع بلجيكا في أحد طرقها. “يمكن للمرء أن يستقيم في بلدٍ ويبول في البلد الآخر”.

بعد إغلاق مناجمها وأفرانها العالية، وتهجير مصانعها، تتحوّل إلى مدينة أشباح. بائسةٍ منسيّة. تجتاحها سياسة الليبرالية الجديدة التي تزيد إفقار وخنق فقرائها وتضاعفُ غنى أثريائها.

شارل ابريل صحفيٌّ يأتي إليها ليرسل مقالاته عنها لمركزٍ إعلامي. يكتب كل يومياتها وتاريخها سارداً فيه أدقّ التفاصيل. يعبر كل شوارعها ومرافقها: المستشفى، المسبح، عمارة البريد… لِيسرد حلقاتٍ مثيرةً من سلسلة إنهيارات المدينة: اشتعال سطح المسبح جراء سائلٍ قابلٍ للاشتعال يحرق رؤوس السبّاحين، حريق عمارة البريد خلال يومين أمام مرأى الجميع.

“لم يطالب أحد بتعويض رسائله البريدية، وعندما انطفأ الحريق لوحده، بقت العمارة كما هي، حتّى هطول الأمطار، حيث تحوّلت وحلاً وطيناً”.

 

“ليل والنهامس” روايةُ عالمٍ ساقط، عالمِنا الرأسمالي الذي تعطّلت بوصلته ووصل اليوم إلى طريقٍ خانقٍ مسدود، كما تبرهنُ كل الأرقام والأحداث اليومية (نموذج إفلاس اليونان اليوم، وما ستلحقها من دولٍ أوربية، يشرح نفسه).

 

لنعد لسؤالنا: متى ستنتهي حضارتنا البشرية إذن؟

بالنسبة للجيولوجيين: عاشت الأرض منذ 12 ألف سنة عصراً مستقراً، اسمَهُ Holocène، بدأ باكتشاف الزراعة وانتهى اليوم بدخول كوكبنا عصراً جديداً مضطرباً اسمه: ocèneAnthrop.

بدأ هذا العصر الجديد منذ بدء “لخبطةِ” إنسان الثورة الصناعية لمنظومة الأرض البيئية وزلزلتها بسبب نشاطاته الحرارية (مواصلات، صناعة…)، واستخدامِهِ الجشع للثروات الطبيعية والطاقة الأحفورية دون احترام إيقاع منظومة الأرض، وتلويثهِ المجنون للبيئة، والزيادة الأسيّة لِعدد سكّان المعمورة، واستهلاكهم اليومي المتضخِّم المجنون…

 

قاد ذلك لِتغليف جوّ الأرض بغطاءٍ من غازات الاحتباس الحراري كثاني أكسيد الكربون والميثان، يرفع درجة حرارة الأرض رويداً رويداً كما لو كانت محبوسةً في غرفةٍ زجاجيةٍ مغلقة، ويؤدّي إلى ذوبان الجليد في شمالِها، وإلى فيضانات وتسونامي متتالية، وإلى انقراض ثرواتها الحيوانية والنباتية على طريق “الانطفاء السادس” المؤكّد علميّاً اليوم، والذي تحدّثنا عنه في مقالٍ سابق…

 

لنُذكِّر: إذا ما استمرّ الارتفاع على هذا الصعيد (عندما تكون نسبة الغازات الملوِّثة في الجو 500 جزء من المليون، بدلاً من 400 حالياً)، فلن يعيش على سطح البسيطة غير بضعة ملايين من البشر، في مناطقها القطبية!

 

لم يعد مجهولاً لأحدٍ اليوم أن الانهيار البيئي لِكوكبنا هو موضوع الساعة الأهم والأخطر. وكلّ المؤتمرات الدولية لمعالجته، مثل COP21 في باريس في ديسمبر القادم، طلفسات وترقيعات، لأن الحكَم هو الخصمُ نفسُه: النظام المالي العالمي المسئول الأكبر عن تدهور البيئة.

وما الحلول التقليدية مثل: “شراء حقوق التلويث” (الذي خرج به اجتماع كيوتو الدّولي السابق حول تدهور البيئة): دفعُ ضريبةٍ على كمية التلويث، إلا تجسيد لِذلك المنطق الليبرالي الاقتصادي المتغطرس الذي يقود البشرية إلى الهاوية.

إذ لا يؤدي ذلك إلى تخفيض انتاج الغازات الحرارية المؤذية، لكنه يعمل على ترقيع التلويث لا غير، لا سيّما عبر شراءِ الدول الغنية حقوق “كوتا” التلويث، من الدول الفقيرة قليلة التلويث، لتستمر الغنيّة في ضخِّ القذارةِ للعالَم وقتلهِ البطئ بطيبة خاطر!

 

المقلقُ هنا: يجيد الإنسانُ الهروبَ وتلافي الكارثة أمام الخطر المباشر: حيوانٌ مفترس أو مسلّحٌ يواجهه في الشارع، لكن دماغه لم يعتد على مواجهة الخطر البطيء والانهيار الذي يقترب موعده من جيلٍ إلى جيل.

ينتطر هاويتَهُ حينها ويراقبها بهدوء، مكتفياً غالباً “بالدعاء بحسن الخاتمة”! مثلهُ مثل السلحفاة التي تنطّ من الهلع، هاربةً من القدر المملوء بالماء الساخن إذا رميت فيه، لكن عند رميها في قدرٍ مملوءٍ بالماء البارد، يتمّ رفع درجة حرارته ببطء حتى الدرجة القاتلة نفسها، لا تغادر القدر!

تموت وهي تراقب حسن خاتمتها بهدوء أيضاً!