الطبيعة الإنسانية 2.0

حبيب سروري

(نُشِرَ جزء منه في الملحق الثقافي للعربي الجديد)

كشفَتْ ملاحمُ وأساطيرُ الإنسان، كالإلياذة والأوديسة وجلجامش ومهابهاراتا، قبيل بضعة آلاف السنين، خارطةَ الطبيعةِ الإنسانية أيّما كشف. هذه الطبيعةُ التي تشكّلت خلال ملايين السنين من التطوّر الدارويني، لِنرِثَها أباً عن جد، والتي لن تتغيّر ربما إلا بعد مئات آلاف السنين أو أكثر، مع الانتقال إلى سلالات بيولوجية جديدة تواصلُ مسيرةَ تطوّرِ وارتقاءِ هوموسابيانس.

بانتظار ذلك، يظلُّ “ابن آدم زي الإنسان” حسب مثلٍ شعبيٍّ يمنيٍّ ممتع. وتظلُّ عِبَرُ ودروسُ ملاحم وأساطير الإنسان الأولى تُلخِّصنا أفضل تلخيص.

أهمُّها في رأيي قصةٌ سبقت الإلياذة والأوديسة، نجمت عنها سلسلةُ أحداثهما: قصةُ تفاحة إلهة الشجار والفتنة، إيريس:

دعا كبير آلهة الإغريق، زوس، جميعَ الآلهة، إلا إلهة الشجار إيريس التي تعمَّدَ تناسيها، لحفل زواجٍ استثنائي في الأولمب، يضمُّ إلهةً (تيتيس) وإنساناً (بيليه)!

انتقمتْ إيريس من عدم دعوتها بتسريب تفاحةٍ ذهبية للحفل، مكتوبٍ عليها “مهداة لأجمل النساء!”.

تفجّر الخلاف بين المدعوات لاختيار أجملهنّ، من ستحضى بالتفاحة. ثمّ انحصر التنافس في آخر المطاف على مرشّحاتٍ ثلاث: هيرا، زوجة زوس؛ أثينا ابنته المفضّلة؛ وأفروديت، خالته.

تعذّر على زوس اختيارُ الأجمل من بين أعزِّ ذويه، وشعر بالضياع، فطلب من مبعوثته الإلهة هيرمس الذهاب إلى جبل إيدا، بصحبة الآلهات الثلاث، وترك اختيار أجملهنّ لمزاج راعٍ يصادفه في ذلك الجبل.

قابل هيرميس هناك راعياً شابّاً لم يكن في الحقيقة إلا باريس، أحد أبناء بريام، ملكِ طروادة الذي نفى ابنه هذا هناك، لأن عرّافاً قال له إن حرب طروادة ستنفجر بسببه!

وعدَتْ كل واحدةٍ من الآلهات الثلاث باريسَ، إذا ما اختارها، أن تهبَهُ أروعَ ما في ملكوتها: وعدتهُ هيرا بإمبراطورية، كونها زوجةَ زوس. وعدتهُ أثينا، إلهة الفطنة والذكاء، بالمقدرات الذهنية التي ستسمح له بكسب الحروب. ووعدتهُ أفروديت، إلهة الجمال والعشق، بأن تمنحه قلبَ أجمل النساء: هيلين!…

اختار باريسُ، مثل كل رجلٍ طبيعيٍّ في محله: أفروديت. فاز هكذا، حسب وعدها له، بقلب الإغريقية هيلين، زوجة مينيلاس، ملك سبارطة… قبل أن تتفجر بسبب ذلك حرب طروادة ورحلة الأوديسة التي تلتها…

أدركت الأديان، لاسيما المسيحية في القرون الوسطى، هذه التأثيرات الثلاث التي تتجاذب الإنسان منذ الأزل: المُلك والمال، العشق والجمال، الذكاء والانتصارات. وفرضت على رهبانها قواعد للحياة تفصلهم عنها: الفقر، “النقاء” الجنسي، الصمت والعزلة ونظام عمل يومي يستعبد الذهن… (نموذجٌ شهيرٌ لذلك الفرض: “القواعد الثلاث” للقديس كولومبان).

لا يختلف إنسان القرن الواحد وعشرين في عصر الإنترنت 2.0 عن سلفِهِ بالطبع. يدرك ذلك من دخلَ مثلاً سوق الفيسبوك (الذي يستعرضُ كل عضوٍ فيه نفسَه بانتظام، عبر منشوراتٍ يضعها أمام شبكة “أصدقائه”، ضمن شبكةِ شبكاتٍ تضمُّ ملياراً وخُمسَ مليار من أبناء كوكب الأرض).

يلاحظ العضو سريعاً أنه يعيش بين أمواجٍ متلاطمةٍ من المنشورات والعروض السياسية والتجارية والثقافية والاجتماعية التي تسعى غالباً لِجرِّه بأذكى الطرق، المباشرةِ وغير المباشرة، إلى حقولِ الاستقطابات الثلاثة التي انطوت عليها قصة تفاحة إيريس.

أدركت شركة الفيسبوك الأهميةَ القصوى لمقدرتها التأثيرية على الإنسان، والمردودات والنتائج غير المحدودة لذلك.

لِبرهنة ذلك، أجرى باحثوها تجربةً صادمةً مثيرة: غيّروا محتويات سلسلة المنشورات التي تصل إلى 689003 عضواً تم اختيارهم بالصدفة، خلال أسبوع كامل من شهر يناير 2012: في النصف الأول منه تركوا المنشورات التي تصل إلى الأعضاء المختارين تعجُّ بالمشاعر الإيجابية، وفي النصف الثاني منه وضعوا منشورات تعجُّ بالمشاعر السلبية.

لاحظ الباحثون في دراسةٍ نشروها في مجلة علمية (Pnas) أن الأعضاء المختارين نشروا هم أيضاً خلال النصف الأول من الأسبوع أكثر من ثلاثة مليون منشورٍ تطغى عليها المشاعر الإيجابية، وفي النصف الثاني كانت النتيجة مشابهة: طغت على ما نشروه المشاعر السلبية!

الخلاصة الخطيرة لذلك: المشاعر التي يتركها أصدقاؤنا على الشبكة تؤثر على مشاعرنا وسلوكنا، وتتفشّى كما لو كانت تنتقل كالفيروسات البيولوجية من إنسانٍ لآخر. هكذا، يمكن التأثير على مزاج الرأي العام، استهلاكيّاً أو سياسيّاً أو ثقافيّاً، بوضع كتلةٍ هامّة من المنشورات الفيسبوكية تتناغم مع اتجاهِ المزاج المأمولِ إنشاؤه!

هاج بعد هذه التجربة ضجيجٌ دوليٌّ يُجرِّم سلوكَها الأخلاقي الذي يستخدم نصوص الفيسبوك للتلاعب بالرأي العام وصناعته. كان ردّ الشركة رادعاً للجميع: عند انضمام العضو للفيسبوك يوافق في “استمارة شروط الاستعمال” على عبارةٍ تقول بأن من حق الشركة استخدام منشوراته الشخصية لدراساتها الخاصة!

ليس غريباً بعد ذلك أن تؤسس شركة الفيسبوك مختبراً لعلوم الذكاء الاصطناعي، سيكون قريباً الأكبرَ دوليّاً، استدعت لرئاسته الفرنسي يان لوكون، البروفيسور المتخصص في التعلّم الآلي في جامعة نيويورك، والذي قاد قبل ذلك مشروعاً علميّاً لتعليم الكمبيوترِ القراءةَ الآلية لِشيكات البنوك، وساهم في مشاريع قيادة السيارات بدون سائق.

هدفُ المختبر الجديد: دراسةُ محتوى كلّ منشورات الفيسبوك، وتعليمُ الكمبيوتر التحليلَ الآلي لمنجمها الزاخر اللانهائي، واستخلاصُ الدراسات عن مكنوناتها. (بهدف التلصّص والتأثير على الناس، ولا شك).

تبدو هكذا الطبيعة الإنسانية 2.0، وأساليب التأثير عليها، صيغةً لا تختلف عمّا قبل عصر الإنترنت، إلا في الأشكال والأساليب الجديدة للتعبير عنها والإمساك بتلابيبها واستحواذها. لأن هموم الإنسانِ (الذي يحمل وصف “الحيوان الاجتماعي” بامتياز) لم تتغيّر في الجوهر:

فنصف سكّان الفيسبوك مثلاً، حسب دراسات باحثين أستراليين، يعانون في العمق من العزلة والوحدة، ويبحثون عن الآخر غالباً.

لهم جميعاً نفس السلوك الفيسبوكي تقريباً: يميلون لِلإكثار من عرض تفاصيل حياتهم الخاصة وصورهم الشخصيّة وأجوائهم النفسية، فراغِهم العاطفي ووضعِهم الإجتماعي وعناوينِ سكنِهم أحياناً، ميولِهم وأمزجتِهم الشخصية…

بعض من يدمن الفيسبوك يعاني غالباً من كآبةٍ جليّة، وبعضهم يشكو لِطبيبهِ النفسي أحياناً قلّة “اللايكات” التي تحظى بها منشوراته. يعيش ذلك كجرحٍ نرجسي، ويعتبرهُ دليلاً على عدم اعتراف الآخرين به وتقديره!

70% من مستخدمي الإنترنت يرون، في بعض الاستفتاءات، أن الإنترنت أفضل وسيلةٍ للوصول إلى الآخر ونسج علاقة الحب معه، والفيسبوك في أعينهم أجدى الطرق لذلك.

ليس غريباً عند قراءة كلِّ هذه الأرقام والمعانات والحاجات والرغبات الإنسانية أن يقع اختيار باريس، في جبل إيدا، على أفروديت!

والضجر 2.0 لا يختلف عن الضجر الأزلي إلا في شكل التعبير عنه: بدلاً من قتل الوقت في “الشخططة” على غلافات الدفاتر، صار الضجرانُ الإلكتروني (في هذا الزمن الذي يفتح المرء فيه كمبيوترَه وهاتفَه طوال اليوم) يكشفُ ضجرَه في منشوراته لل 18000 صديقٍ فيسبوكي، وال 77000 متابعٍ لصفحته: يضع على صفحتهِ صورَ علبة الساردين التي تناولها قبل قليل، جوارباً قديمةً له في رفٍّ مهجور، صحن غذاء قطّته، ويصوِّر بهاتفه ما يراه على شاشة التلفاز لوضعه أوّلاً بأوّل بعد ذلك في صفحته على الفيسبوك!…

المرأة والرجل لم يتغيّرا بالطبع: عدد مدونات النساء (لاسيّما في المجتمعات المتطورّة) حوالي 70% من عدد المدونات. المرأةُ منبعُ الجذب والإغراء كما هي دوماً. وفريسةُ الاغتصاب الذكوري أيضاً، كما كانت منذ الأزل. وإن أمسى اغتصاب اليوم مصحوباً أحياناً بفيديو يوضعُ ذات ليلةٍ على اليوتوب لِتخليده، يقود إلى انتحار الفتاة في الليلة نفسِها!…

إنتحارات جيل الفيسبوك لا تختلف كميّاً عن انتحارات من سبقهم. يموت المنتحِرُ وحيداً حتّى وإن أشعَر قبيل ذلك، في منشورٍ إنذاريٍّ نهائي، ال 18000صديقٍ فيسبوكيٍّ و ال77000 متابعٍ لِصفحته، بعزمِهِ على الانتحار!

يموت وحيداً مثل إيما بوفاري التي تنتحر بالتسمّم في رواية “مدام بوفاري” لفلوبير (1857)، في نصٍّ جنائزيٍّ مهيب. تموت بعيداً عن الآخرين هي التي أعطتهم كلّ شيء أثناء حياتها، بما في ذلك سيناريو لحظة موتها التراجيدي الذي نقشه ألبيرت أوجست فورييه في لوحةٍ شهيرة (في متحف الفنون الجميلة بِرُوان)، وصوَّرتْهُ المسارح والأفلام…