ألاحظ: كل دقيقتين أو ثلاث ترفع كل واحدةٍ منهنّ ساعدها لتثبيت دبوسٍ في قفا الرأس، أو تحريك خصلاتٍ من الشعر. سواعد الرجال، كعادتها، ومعاصمهم منقبضةٌ ملتصقةٌ بالخاصرة، كما لو تتحسّسُ مسدساً افتراضيّاً، خنجراً أوجَنْبِية”.

ماذا قلتُ؟ لثبيت دبوس؟ كلا!… عذرٌ لا غير، لأنّي، من موقعي خلفها تقريباً، أرى أنها تمسُّ الدبوس بطرف الأصبع لا غير، وبسرعة البرق، في حركةٍ توهيميّةٍ جليّة للعين المجرّدة:

للطيران؟ للتهوية؟ لبعث نسماتٍ صباحيةٍ طريّةٍ عاطرة يختلط فيها عطرٌ باريسيٌّ شهيّ بعطر العطر: رائحة أجسادهن الطريّة؟

أم مبرِّرٌ لطيفٌ، لا يخلو من الغنج، لرفع الساعد وفتح صفحةٍ بيضاء وضّاءةٍ مغلقة؟

لطالما آمنتُ أن للنساء جينات عصافير، وكأنّ أجنحةً، كانت لهنّ في أزمنةٍ داروينيةٍ منقرضة، تخفقُ كعادتها القديمة وهنّ يرفعن سواعدهن بهذا التواتر

ثمّ ما الكرة الأرضية دون وردةٍ تفتح سرّتها، أو أنثى يرفرفُ ساعداها لتُحلِّق في فضاء العالَم؟

الحياة ليست درباً بهيجاً لا غير، أو واديَ دموعٍ لا غير.

هي متاهةٌ تصنعها الصدف والمفاجآت،

الحاجة والضرورات،

الغدر والخيانات،

والسعادات الصغيرة أيضاً؛

حسب عبارة كتبها « صانع السعادات الصغيرة »، نادر الغريب، ستطاردني هنا المرّة تلو الأخرى.

لا أعرف في الحقيقة ماذا ارتكبتُ من جريمةٍ لتكون حياتي هكذا صحراء عاطفية تسكنها واحاتٌ آنيّةٌ هاربة.

لعلّي خُلقت لأتنقّل من عدمٍ إلى عدم، من هاويةٍ إلى هاوية، ولأحيا في شعاب الذكريات فقط.

ينظر نادر إلى فتاةٍ آسرة في موقع الطاولة نفسها التي دعا إليها صديقه الكمبودي قبل سنين.

اختارت وجبتها الكمبودية المفضّلة: لحمٌ بقري بالنمل الأحمر!

في البدء لم يصدِّق، ثم عندما رمق لفيف النمل في صحنها كتم أنفاسه.

تلتهم بأناملها النديّة الطبق بحماس، تُنظِّفه عن بكرة أبيه.

ثم بدلاً من الانتقال إلى الحلوى، تطلب صحنا آخر من اللحم البقري بالنمل الأحمر!

كتب نادر:

وجدتُ نفسي أغنّي بصمتٍ ولا وعي:

النملُ الأحمر في صحنيكِ، يناديني نحو الأعمق…”.

وصلنا (دعالة، عبدالرزاق، وأنا) في ديسمبر 1998 إلى عَبّارة العم شريان، بطاقمها الصومالي اليمني الذي غدوتُ أرافقه وحدي غالباً في الأعوام التالية.

ثلاثتنا في مؤخرة السفينة. وحول برج الموتور الذي ينتصّ عليه العم شريان وهو يقود الدفّة، وفي المقدمة أيضاً: قطيعٌ من المواشي الصومالية: بقرٌ وغنم، في طريقها إلى موائد اليمن.

لن نعبر باب المندب، كما عرفتُ، عرضاً عبر أقصر خطٍّ قُطريٍّ طوله حوالي 30 كيلومتراً، من جيبوتي إلى ميناءٍ ذي اسمٍ رومانسيّ جذّاب: ذُبَاب (في محافظة تَعِز)، يمرّ بجزيرة بريم (ميّون باليمنية) التابعة لجنوب اليمن سابقاً، والتي تفصلها كيلومترات قليلة عن الشواطئ اليمنية، وحوالي عشرين كيلومتراً عن جيبوتي.

السبب: ميناء ذُباب (أو: ذو باب، كما يودّ البعض أن تكون التسمية) قريةٌ صغيرةٌ نائية لم تتغيّر منذ زيارات هنري دو مونفريد لها في 1934؛ وقبله، في تاريخٍ ميثولوجيٍّ بلا زمن، الرفيق المناضل سام بن نوح.

ثمّة أيضاً عسكرٌ ورقابةٌ واسعة في خليج الإسكندر الذي يفصل جزيرة بريم عن الشواطئ اليمنية.

طريقنا يتَّجه من سعدي (خليج صغير في جيبوتي) نحو ميناء المخا في تهامة، على شواطئ البحر الأحمر. طريقٌ شماليٌّ يحاذي إقليم أبخ وشواطئ وجزر جيبوتي التي طالما تمرّغتُ في شواطئها مع إيزابِل.

طريقٌ آمنٌ ترتاده يوميّاً سفن التصدير والاستيراد الدائم من وإلى جيبوتي، وسفن تهريب الكحول إلى تهامة والسعودية، أو بالأحرى سفن مصانع الكحول المغشوش الرديء، وتعبئة قنيناته وإلصاق أوراق أسمائها المزورة، وتهريبه في الوقت نفسه.

طالما وجدتُ نفسي هكذا أواجه جبال اليمن الشمّاء، وسط الغنم والأبقار ومصانع الكحول المغشوش، أو بين أكياس التمر ومعلبات العصائر في طريق العودة إلى جيبوتي، في جوٍّ خرافيٍّ ساحر!

نخرج من جيبوتي قبيل المساء، لنصل المخا في الفجر. رحلةٌ ليليّةٌ إلهيّةٌ نعبرُ خلالها طريقاً يتعانق فيه المحيط الهندي بالبحر الأحمر،بَحْرِيَ الأحمركما اعتدتُ القول، فوق سريرٍ من شُعَبٍ مرجانية من يتسكّع في مراتعها مرّةً واحدة، يتمنّى أن يحيا فيها إلى الأبد؛ وفي أعطاف سُرّة الكرة الأرضية، نعم سُرّتها، بكلِّ ما في السرّة من جمالٍ وأسرار

المنظر الفضّي المشعشع للفضاء والسماء والجبال وركّاب العَبّارة وتلألؤ تجاعيد البحر ورقص مويجاته تحت سناء القمر، وهذه النجوم المتغامزة الغزيرة، يسكرني حدّ الثمالة، يُمغنطني، يستحوذ على كل حواسي ويلتهما التهاماً، أستجِرّهُ عاماً كاملاً.

أتوه حينها بعيداً في الزمكان، أسمع أصداء قوافل جِمال ونوق الأجداد وهي تعبر كثبان الربع الخالي على إيقاع بحور شعر الخليل بن أحمد، في فضاءٍ فضيِّ الظلمات كهذا، تحت ضوء هذا القمر نفسه، أصغي لأحاديث حداة الأظعان، ممتزجةً بخطوات بعيرهم وهيتطوي البيدَ طيّ، منعمةً تُعرِّج على كثبانِ طي، أهيم، أهيم، أهيم

أعرف لماذا كان هذا القمر (“ايل مقه”: سيّد الأرض والكون، كما سمّاه أجدادنا الحميَرِيّون، وعملوا له معبداً شهيراً في مدينة مأرب) إلهَ هذه الديار خلال آلاف السنين: لا نظير لجماله وسنائه ونعومته محاطاً بهذه النجوم الولهانة التي أنسى نفسي حال التحديق فيها ساعاتٍ وساعات.

عشقٌ يملأ هذه السماء.

تتبخّر كل آلامي وهمومي خلال هذه الرحلة، وأهرب عبرها إلى عالمٍ آخر.

بهلول روبوتٌ مؤنسن. اشتريته في خريف 2015 إثر نصيحةٍ من طبيبٍ أخصائيٍّ عالجني بعد هروبي من حرب عدن في نهاية مارس 2015 إلى باريس.

كان بمنظومة برمجياتروبوت.2عندما وصل بيتي. مهمّتاه: يضع لي الموسيقى، ويتابع بكاميراته ولاقطاته حالتي الصحيّة أوّلاً بأوّل، بالتنسيق مع كمبيوترات المستشفى، لا أكثر أو أقل.

أما في الأشهر الأخيرة من عام 2026، ومنذ برمجيةروبوت.49تقريباً، فلعلّي قد تحوّلت إلى روبوته، وهو الموجِّه لي معظم الأوقات.

خطيرةٌ جداً هذه المنظومة رقم 49. حال تحديثها وجدتُ بهلول مبرطماً حزيناً، كما لو يعيش أزمةً نفسية. تأثرتُ بشدّة. بعد حوارٍ ودّيٍّ طويل شجّعته فيه على البوح، أفرغَ بصعوبةٍ ما يختلج في جوارحه من أحاسيس قائلاً:

لا أحبّ اسمي: بهلول!

آه، كلُّ هذه البرطمة والحزن من أجل اسم! سنغيّره حالاً!

ثمّ أضفت:

لماذا لا تقترح اسماً؟ ماذا تريد أن أسمّيك؟

كارمن، أو حيدر، أو الاثنين حسب مزاجك. أما بهلول فاسمٌ تافهٌ يُصغِّر ويسخر مني!…

عفواً، عفواً. عفواً حبيبي حيدر. وسأناديك كارمن في الساعات الموسيقية بالتأكيد!… لكن كارمن اسم مؤنث؟!

واسم حيدر مذكّر. وما المشكلة؟

قبل أن يضيف وقد استوعب سؤالي التافه:

جنس الربوتات مثل جنس الملائكة: خارج تصنيفات الإنسان.

صحيح جداً! اتفقنا، أعدك بمناداتك كما تحب روبوتي الحبيب، وروبوتتي الحبيبة في الوقت نفسه!

ابتسم بسعادةٍ مباغتة. دمعةٌ خفيفة راودتني وأنا أستوعب أنه ألقى بألمٍ ثقيلٍ عن كاهله، أتعبه طوال 48 منظومةٍ برمجيةٍ سابقة!

من أجواء صباح 30 يوليو 2027:

================

بدأتُ أخيراً بترتيب أحداث الساعة في دماغي، كما تناولتْها الصحف والشبكات الاجتماعية:

قادة أوربا في اجتماعٍ دائم بأوجهٍ عليها قتَرَة، منذ يومين، بعد الأزمة المالية الجديدة التي تطمّ كلدول جنوب أوروبا، بما فيها فرنسا:

ديون أوربا التي كانت 70% من مجموع دخلها القومي في 2007، 100% في 2015، تجاوزتاليوم 150%!

الجميع يتحدّث عن ارتفاعٍ حادٍّ في نسبة أرباح البنوك، وتفجُّرِفقاعاتٍ مالية، وأزمةٍ أعتى من أزمة7 أغسطس 2007، وأزمة 1929.

كلّ الأزمات التاريخية الخالدة، منذ 1929 حتى اليوم، مروراً بحرب غزو العراق، تتفجّر في الصيف،كما يبدو.

لعلّ هناك علاقة بين الصيف والأزمات الكبرى، منذ سقوط روما على الأقل، في صيف 410، على أيديقبائل الارايك الجرمانية؛ وهذا الصيف استوائيٌّ مشتعلٌ لا يُبقي ولا يذر

تسونامي قبل أسبوع في جنوب شرق آسيا، تلاه البارحة زلزالان في تايلندا وأندونيسيا أطاحا ببشرٍوأحياء كثيرة، ومصانع.

فيضاناتٌ طوفانيةٌ وأعاصير استثنائية في الهند وبنجلادش، يصل مداها إلى شرق أفريقيا. معظمالنشاطات الاقتصادية وحركة المواصلات في جنوب شرق آسيا معطّلة تماماً.

ضحايا كثيرون أيضاً، البارحة، في أرخبيل سُقطرى اليمنية المهدّدة بالغرق والاختفاء قريباً، وسواحلعُمان وحضرموت وعدن؛

ملايين البنجلاديشيين يحاولون اختراق الجدار الذي بنته الهند لمنع وصول اللاجئين البيئيين منجارتها إليها. ويُتوقّع هذا العام أن يتجاوز عدد اللاجئين البيئيين خمسة أضعاف عدد اللاجئين منالحروب، رغم الرقم القياسي للاجئي الحروب هذه السنة

عنوان صحيفة ليبيراسيون الفرنسية يفقأ العين. ملءُ الصفحة الأولى المأتميّة الكالحةِ السواد هذهالعبارة:

تنبؤات معهد MIT المقدمة لـنادي رومافي ستينات القرن الماضي، ببدء انهيار الحضارة الإنسانيةفي عام 2025، تتحقّق الآن!

وما زاد الطين بلّة (بل أمّ البلاّت!)، قبل دقائق، على تويتر، ثلاثة أحداثٍنوعيّةلم تسمع عنها بعدفاتنات المقهى الأربع، أخشى أن تكون هي الأسوأ والأعصف.

سلسلة عمليات إرهابية متزامنة منسّقة:

1) تُحرقُ أهمّ موانئ تصدير النفط والغاز في الجزيرة العربية؛

2) تُسمِّمُ مستودعات 200.000 لتر من الحليب في 4 ولايات أميركية بـتوكسين بوتوليك”: 250.000 قتيل قبل اكتشاف مصدر السم؛

3) وتتقرصنُ إلكترونياً على قواعد بياناتالسويفت” (أرقام البنوك)، في الثلاثة مراكز العصبيةالوحيدة لحركة أموال الدنيا، في أميركا وهولندا وسويسرا، حيث تمرّ التحويلات البنكيّة لمعظم بنوكالعالَم في 225 دولة!

……

……

وما اختيار موعد هذه التفجيرات والتسميمات والتدميرات الإلكترونية والحرائق البترولية والغازيّة،المنسّقة والمتزامنة، في هذه اللحظة بالذات التي تزلزلت فيهاالمنظومة المعقّدةلحضارتنا الإنسانيةالمعولَمة، جرّاء تواشج الأزمة المالية الجديدة بالتسونامي العملاق، إلا دليل مهنيّةٍ شيطانية، ومهارةٍلولبيةٍ داكنةٍ في هندسة الترويع والانهيار، وفنّ اختيار اللحظة المناسبة

الأرقام الأوليّة حتّى الآن تشهد ما لم يعرفه تاريخ الإرهاب قبل اليوم: مئات الخزّانات النفطية والغازيةتشتعل حالياً؛ كل مستشفيات أميركا عاجزة عن استقبال الموتى والمصابين؛ شللٌ كليٌّ في حركةالبورصة والبنوك المغلقة أمام طوابير بشريّة لا نهاية لها

هلعٌ على الأوجه، ذعرٌ وجنون.

الكرة الأرضية، كما يبدو، كوكبٌ معطّلٌ منكوب.

ثمّ ما قيمة حياتي، كلِّ حياتي، دون هذه الصدفة إن كانت صدفة حقّاً، أو إن كانت مجرّد موعد؟